للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فأمر لم يتقدم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه من الله نهي، فيعدّ معصية ولا عدّه الله عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك.

قال نفطويه: وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيرا في أمرين. قالوا: وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، وكيف؟ وقد قال الله تعالى:

فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس (عفا) هنا بمعنى غفر، بل كما

قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «١» : عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق. ولم تجب عليهم قط.

أي لم يلزمهم ذلك.

ونحوه للقشيري قال: إنما يقول (العفو لا يكون إلا عن ذنب) من لم يعرف كلام العرب. قال: ومعنى (عفا الله عنك) أي لم يلزمك ذنبا. انتهى.

وقد عدّ ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته.

وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك. أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأت، وبئسما فعلت، هب أنه كناية، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب، والتخفيف في العتاب، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة (بئسما) المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها. ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عزّ وجلّ لَوْ خَرَجُوا ... إلخ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ ... الآية- نعم. كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم، بأنهم غروه صلّى الله عليه وسلّم، وأرضوه بالأكاذيب. على أنه لم يهنأ لهم عيش، ولا قرّت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. انتهى.


(١)
أخرجه ابن ماجة في: الزكاة، ٤- باب زكاة الورق والذهب، حديث رقم ١٧٩٠ عن عليّ ونصه: إني قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق ...
إلخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>