للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هل فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم باجتهاده، أم بأمر من الله تعالى غير القرآن، فإن الوحي غير محصور في القرآن.

ولكن الجمهور على أن القرآن ينسخ بالقرآن، بناء على أنه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب، يعبد الله تعالى بتلاوتها، وتذكر نعمته، بالانتقال من حكم كان موافقا للمصلحة ولحال المسلمين في أول الإسلام، إلى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان. فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثل منه، كالتخفيف في تكليف المؤمنين بقتال عشرة أمثالهم، والاكتفاء بمقاتلة الضعف بأن تقاتل المائة مائتين. واتفقوا على أنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية، وعلم تاريخهما، فعند ذلك يقال: إن الثانية ناسخة للأولى. أما آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها.

وقال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة- وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق. وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه. حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد. فالنسخ، عندهم وفي لسانهم، هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه. ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر.

انتهى.

وقال وليّ الله الدهلويّ في الفوز الكبير: من المواضع الصعبة في فن التفسير التي ساحتها واسعة جدّا، والاختلاف فيها كثير، معرفة الناسخ والمنسوخ، وأقوى الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمين والمتأخرين، وما علم في هذا الباب، من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى، إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا، أو تخصيص عام، أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس عليه ظاهرا، أو إزالة عادة الجاهلية، أو الشريعة السابقة، فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك، واتسعت دائرة الاختلاف. ولهذا بلغ عدد الآيات المنسوخة خمسمائة.

<<  <  ج: ص:  >  >>