للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نذكر، فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة، وتعود به إلى مداركها.

فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا، وغير جليّ بالمحاكاة، والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير، وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس، أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة بالبدن ومداركه، حتى تصير ذاتها تعقلا محضا ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذ ذاتا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية، إلا أن نوعها من الروحانيات دون الملائكة، أهل الأفق الأعلى، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاصّ، كالذي للأولياء. ومنه عامّ للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالات الوحي، وهي عند ما يعرج على المدارك البدنية، ويقع فيها ما يقع من الإدراك، شبيها بحال النوم شبها بينا، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير، فلأجل هذا الشبه عبّر الشارع عن الرؤيا بأنها

(جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)

وفي رواية (ثلاثة وأربعين)

،

وفي رواية (سبعين)

وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه، وهو للتكثير عند العرب، وما ذهب إليه بعضهم

في رواية (ستة وأربعين)

من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدنية ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين- فكلام بعيد من التحقيق. لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم، صلوات الله عليهم، إذ هو الاستعداد البعيد. وإن كان عامّا في البشر، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، الذي هو جبلّيّ لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من

<<  <  ج: ص:  >  >>