للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص على النبيّ، صلوات الله عليه، من أنباء الرسل، وأخبار من تقدمه، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ ... [هود: ١٢٠] الآية. وإنما أفردت على حدتها، ولم تنسق على قصص الرسل، مع أنهم في سورة واحدة، لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام، وكيفية تلقي قومهم لهم، وإهلاك مكذبيهم؟ أما هذه القصة. فحاصلها: فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره، وشتات بنيه. وامتحن يوسف عليه السلام بالجبّ والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن. ثم امتحن جميعهم بشمول الضّر، وقلة ذات اليد مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ... [يوسف: ٨٨] الآية. ثم تداركهم الله بإلفهم، وجمع شملهم، وردّ بصر أبيهم، وائتلاف قلوبهم، ورفع ما نزغ به الشيطان وخلاص يوسف عليه السلام، وبكيد من كاده، واكتنافه بالعصمة، وبراءته عند الملك والنسوة، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر، وجلالة اليقين، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم، على توالي الامتحان، وطول المدة. ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز، ورجوعها إلى الحق، وشهادتها ليوسف عليه السلام، بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين. ثم استخلاص العزيز إياه. إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر، فقد انفردت هذه القصة بنفسها، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم. وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طيّ ذلك. وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...

[النور: ٥٥] إلى قوله: أَمْناً وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمران: ١٠٣] ، وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم، وذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص- والله أعلم-.

ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، ما أعدّ لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في

<<  <  ج: ص:  >  >>