للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليته اطلع على ما كتبه ابن جرير حتى يمسك من جماح يراعه ويبصر الأدب مع السلف مع المخارج العلمية لهم. وهاك ما قاله ابن جرير رحمه الله (بعد ما نقل عن مجاهد قوله المتقدم) .

وأولى القولين بالصواب، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقام الشفاعة- ثم قال- وهذا وإن كان هو الصحيح في القول، في تأويل المقام المحمود، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين. فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قوله غير مدفوع صحته. لا من جهة خبر ولا نظر. وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين، بإحالة ذلك.

فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه، كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذا لم يكن هو لها مماسّا، وجب أن يكون لها مباينا. إذ لا فعّال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها، قالوا: فإذ كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين- فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على الأرض (إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد. في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما) وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه. فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على أرضه (إذ كان سواء على قولهم. عرشه وأرضه، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه) .

وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا وصار له مماسّا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ولا شيء يحرمه ذلك. ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا. قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه ولا يباينه. وخلق الأشياء فماسّ العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه فهو مماسّ ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه. فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم

<<  <  ج: ص:  >  >>