للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مشاهير الأديان هذه الأربع، بيّن تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه، وقبل أن ينسخ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقينيّ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ثم قال: وقول ابن عباس: إن هذا منسوخ بقوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥] ، يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبيّ عليه السلام. فأمّا في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه. أي فليس مراد ابن عباس، ومن وافقه، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود، ومن ذكر معهم، على عمله، في الآخرة الجنّة، ثم نسخه بآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ بل مراده ما ذكر الراغب.

وهذا ما لا شبهة فيه. ولذا قال ابن جرير: ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان، بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عن جميع ما ذكر في أول الآية.

[تنبيه:]

ظاهر هذه الآية، مع تفسير الراغب مَنْ آمَنَ بالمتحري للاعتقاد اليقينيّ، مما قد يستدل به العنبريّ لمذهبه. فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب، حتى في الأصول، ووافقه الجاحظ. قال الغزاليّ في المستصفى: ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده، فهو آثم. وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم. وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر، فهو أيضا معذور. وإنما الآثم المعذب، المعاند فقط. لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى، إذ استد عليهم طريق المعرفة. ثم ردّه الغزاليّ بأدلة سمعية ضرورية، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة.

ثم قال الغزاليّ: وأما قوله- أي الجاحظ-: كيف يكلفهم ما لا يطيقون؟

قلنا: نعلم ضرورة أنه كلفهم، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون، فلننظر فيه، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل، ونصب من الأدلة، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات، الذين نبّهوا العقول، وحركوا دواعي النظر، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل.

<<  <  ج: ص:  >  >>