للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معبوده. فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته. وهو سرّ بين العبد وربّه، ولا يطلع عليه سواه..!.

والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأمّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر. وذلك حقيقة الصوم..!

وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة. وحميتها عن التخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ الموادّ الردية المانعة له من صحتها. فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها.

ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى في تتمة الآية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ،

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «١» : الصوم جنّة.

وأمر «٢» من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه، بالصيام. وجعله وجاء هذه الشهوة.

وكان هدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه أكمل الهدى، وأعظم تحصيلا للمقصود، وأسهله على النفوس..! ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقّ الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة. لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة. وألفت أوامر القرآن. فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد صام تسعة رمضانات. وفرض أوّلا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كلّ يوم مسكينا. ثمّ نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة- إذا لم يطيقا الصيام- فإنهما يفطران ويطعمان عن كلّ يوم مسكينا- كما سيأتي بيانه- وكان للصوم رتب ثلاث: أحدها: إيجابه بوصف التخيير. والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة: وهي التي استقرّ عليها الشرع إلى يوم القيامة..! كذا أفاده ابن القيم في زاد المعاد.


(١)
أخرجه البخاريّ في: الصوم، باب فضل الصوم، حديث ٩٦١ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصيام جنة. فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم (مرتين) والذي نفسي بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.
يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به. والحسنة بعشر أمثالها..
(٢)
أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٣- باب من لم يستطع الباءة فليصم حديث ٩٦٧ ونصه: قال عبد الله (بن مسعود) كنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبابا لا نجد شيئا فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» .

<<  <  ج: ص:  >  >>