للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المائدة: ١١٦] ونحو هذا مما يعطي المعنى والقرائن والبراهين استحالته، ويُفْتَرى معناه: يختلق وينشأ، وكأن المرء يفريه من حديثه أي يقطعه ويسمه سمة، فهو مشتق من فريت إذا قطعت لإصلاح، وتَصْدِيقَ نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر، وقال الزجّاج: هو خبر «كان» مضمرة، والتقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه، وقوله الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يريد التوراة والإنجيل، والذي بين اليد هو المتقدم للشيء، وقالت فرقة في هذه الآية: إن الذي بين يديه هي أشراط الساعة وما يأتي من الأمور.

قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ، والأمر بالعكس كتاب الله تعالى بين يدي تلك، أما أن الزجّاج تحفظ فقال: الضمير يعود على الأشراط، والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه القرآن.

قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضا قلق، وقيام البرهان على قريش حينئذ إنما كان في أن يصدق القرآن ما في التوراة والإنجيل مع أن الآتي بالقرآن ممن يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه، وتَفْصِيلَ الْكِتابِ هو تبيينه، ولا رَيْبَ فِيهِ يريد هو في نفسه على هذه الحالة وإن ارتاب مبطل فذلك لا يلتفت إليه، وقوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الآية، أَمْ هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو، وإنما هي التي تتوسط الكلام، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاما وإضرابا عما تقدم، وهي كقولهم: إنها لا بل أم شاء، وقالت فرقة في أَمْ هذه: هي بمنزلة ألف الاستفهام، ثم عجزهم في قوله قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ والسورة مأخوذة من سورة البناء وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن:

إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف بالحقائق، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده.

قال القاضي أبو محمد: هكذا قول جماعة من المتكلمين، وفيه عندي نظر، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب ردا على قولهم افْتَراهُ، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق، وما ألزموا قط إتيانا بغيب، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: ٣] ، وكقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح: ٢٧] ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك، وأما التحدي بالنظم فبين أيضا أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علما، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته- وهي الحوليات- يبدل فيها ويقدم ويؤخر، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره، كفعل الفرزدق في أبيات جرير، والجارية في شعر الأعشى، وقول الأعرابي «عرفجكم» فقطع ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين: اطراد النظم والسرد،

<<  <  ج: ص:  >  >>