للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في قراءة ابن مسعود وأبيّ «فرقناه عليه لتقرأه» أي أنزلناه شيئا بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين سنة، وقال قتادة في عشرين سنة، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين، وتم بموته، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم، وتأولت فرقة قوله عز وجل عَلى مُكْثٍ

أي على ترسل في التلاوة، وهو ترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر أي عَلى مُكْثٍ وتطاول في المدة شيئا بعد شيء، وقوله وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية، وأجمع القراء على ضم الميم من مُكْثٍ، ويقال مكث ومكث بفتح الميم ومكث بكسرها، وقوله قُلْ آمِنُوا بِهِ الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى أنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة، واختلف الناس في المراد ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ، فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.

وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في قَبْلِهِ عائد على القرآن حسب الضمير في بِهِ، ويبين ذلك قوله إِذا يُتْلى، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله إِذا يُتْلى، وقوله لِلْأَذْقانِ أي لناحيتها، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما، وعليهما قال ابن عباس: المعنى للوجوه، وقال الحسن: المعنى للحى، و «الأذقان» أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر: [الطويل]

فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم ... سباع من الطير العوادي وتنتف

وإِنْ في قوله إِنْ كانَ هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة، واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية، واللام بمعنى إلّا، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا مخلصا للوعيد دون التحقير، والمعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة، إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.

قوله عز وجل:

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)

<<  <  ج: ص:  >  >>