للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معها فجعلناها على ما تستحق لا تعد شيئا وصيرناها هَباءً مَنْثُوراً أي شيئا لا تحصيل له، والهباء هي الأجرام المستدقة الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به الظل كالكوة أو نحوها، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر فذلك هو الهباء، ووصفه في هذه الآية ب «منثور» ، ووصفه في غيرها ب «منبث» ، فقالت فرقة هما سواء، وقالت فرقة المنبث أرق وأدق من المنثور لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره كسنابك الخيل والرياح أو هدم حائط أو كنس ونحو ذلك، والمنبث كأنه هو انبث من دقته، وقال ابن عباس الهباء المنثور، ما تسفي به الرياح وتبثه، وروي عنه أنه قال أيضا الهباء الماء المهراق والأول أصح والعرب تقول أهبات الغبار والتراب ونحوه إذا بثثته وقال الشاعر [الحارث بن حلزة اليشكري] : [الخفيف]

وترى خلفها من الربع والوق ... ع منينا كأنه أهباء

ومعنى هذه الآية جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة، ثم أخبر عز وجل بأن مستقر أهل الجنة خَيْرٌ من مستقر أهل النار، وجاءت خَيْرٌ، هاهنا للتفضيل بين شيئين لا شركة بينهما، فذكر الزجاج وغيره في ذلك أنه لما اشتركا في أن هذا مستقر وهذا مستقر فضل الاستقرار الواحد.

قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن هذه الألفاظ التي فيها عموم ما يتوجّه حكمها من جهات شتى، نحو قولك أحب وأحسن وخير وشر يسوغ أن يجاء بها بين شيئين لا شركة بينهما، فتقول السعد في الدنيا أحب إليّ من الشقاء إذ قد يوجد بوجه ما من يستحب الشقاء كالمتعبد والمغتاظ وكذلك في غيرها، فإذا كانت أفعل في معنى بين أن الواحد من الشيئين لا حظ له فيه بوجه فسد الإخبار بالتفضيل به، كقولك الماء أبرد من النار، ومن هذا إنك تقول في ياقوتة ومدرة وتشير إلى المدرة هذه أحسن وخير وأحب وأفضل من هذه، ولو قلت هذه ألمع وأشد شراقة من هذه لكان فاسدا، وقوله مَقِيلًا ذهب ابن عباس والنخعي وابن جريج إلى أن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فالمقيل من القائلة.

قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة، فالعرب تفضل البلاد بحسن المقيل لأن وقت القائلة يبدو فساد هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسنا جاز الفضل ومن ذلك قول الأسود بن يعفر الإيادي: [الكامل]

أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دواد

وقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ يريد يوم القيامة عند انفطار السماء ونزول الملائكة ووقوع الجزاء بحقيقة الحساب، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «تشّقّق» بشد الشين والقاف، وقرأ الباقون بتخفيف الشين، وقوله بِالْغَمامِ أي يشقق عنه، والغمام سحاب رقيق أبيض جميل لم يره البشر بعد إلا ما جاء في تظليل بني إسرائيل، وقرأ جمهور القراء «ونزّل الملائكة» بضم النون وشدّ الزاي المكسورة ورفع «الملائكة» على مفعول لم يسم فاعله، وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوهاب «ونزل» بتخفيف الزاي المكسورة، قال أبو الفتح وهذا غير معروف لأن «نزل» لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا «للملائكة» ، ووجهه أن يكون مثل زكم

<<  <  ج: ص:  >  >>