للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكثرة الخطر فيه مع الله تعالى، ثم إنه لما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قررته الشريعة وأكدت فيه وكان من القوي عندهم الملتزم قدم الله تعالى النهي عن طاعتهما، وقوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً على معنى أنا لا نخلّ ببر الوالدين لكنا لا نسلطه على طاعة الله لا سيما في معنى الإيمان والكفر وقوله: حُسْناً يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوز ويسهله كونه عاما لمعان، كما تقول وصيتك خيرا أو وصيتك شرا، عبر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك دون حرف جر كون حرف الجر في قوله بِوالِدَيْهِ لأن المعنى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بالحسن في فعله، مع والديه، ونظير هذا قول الشاعر: [الرجز]

عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها فكأننا جافونا ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله بِوالِدَيْهِ وينتصب حُسْناً بفعل مضمر تقديره يحسن حسنا، وينتصب انتصاب المصدر، والجمهور على ضم الحاء وسكون السين، وقرأ عيسى «حسنا» بفتحهما، وقال الجحدري في الإمام مكتوب «بوالديه إحسانا» قال أبو حاتم يعني «في الأحقاف» ، وقال الثعلبي في مصحف أبي بن كعب «إحسانا» ، ووجوه إعرابه كالذي تقدم في قراءة من قرأ «حسنا» . وقوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر، ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم، وقوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ مبالغة على معنى في الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته وإذا تحصل للمؤمنين هذا الحكم تحصل ثمره وجزاؤه وهو الجنة، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ الآية إلى قوله الْمُنافِقِينَ نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة مختفين بإسلامهم، قال ابن عباس: فلما خرج كفار قريش إلى بدر أخرجوا مع أنفسهم طائفة من هؤلاء فأصيب بعضهم فقال المسلمون كانوا أصحابنا وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] ، قال فكتبت لمن بقي بمكة بهذه الآية أي لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة وردوهم إلى مكة فنزلت فيهم هذه الآية، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٠] ، فكتب لهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا وقتل من قتل، وقال ابن زيد: نزل قوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الآية في منافقين كفروا لما أوذوا، وقوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي صعب عليه أذى الناس حين صده وكان حقه أن لا يلتفت إليه وأن يصبر له في جنب نجاته من عذاب الله، ثم أزال تعالى موضع تعلقهم ومغالطتهم أن جاء نصر، ثم قررهم على علم الله تعالى بما في صدورهم أي لو كان يقينا تاما وإسلاما خالصا لما توقفوا ساعة ولركبوا كل هول إلى هجرتهم ودار نبيهم وقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ، تفسيره على حد ما تقدم في نظيره، وهنا انتهى المدني في هذه السورة.

<<  <  ج: ص:  >  >>