للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القدرة، ثم وصى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع، وقوله وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نال ضررا فهو إشعار بأن المغير يؤذي أحيانا، وهذا القدر هو على جهة الندب والقوة في ذات الله، وأما على اللزوم فلا. وقوله تعالى إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به، قاله ابن جريج، ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم والسالكين طريق النجاة، والأول أصوب، وبكليهما قالت طائفة. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن «ولا تصاعر» ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد وأبو جعفر «ولا تصعر» ، وقرأ الجحدري «ولا تصعر» بسكون الصاد والمعنى متقارب، و «الصعر» الميل ومنه قول الأعرابي: «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» ، ومنه قول عمرو بن حنى التغلبي: [الطويل]

وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوم

أي فتقوم أنت، قاله أبو عبيدة، وأنشد الطبري «فتقوما» وهو خطأ لأن قافية الشعر مخفوضة، وفي بيت آخر أقمنا له من خده المتصعر. فمعنى الآية ولا تمل خَدَّكَ لِلنَّاسِ كبرا عليهم ونخوة وإعجابا واحتقارا لهم وهذا هو تأويل ابن عباس وجماعة، ويحتمل أن يريد أيضا الضد، أي «ولا تصاعر خدك» سؤالا ولا ضراعة بالفقر، والأول أظهر بدلالة ذكر الاختيال والفخر بعد، وقال مجاهد «ولا تصعر» أراد به الإعراض هجرة بسبب إحنة، والمرح النشاط، والمشي مرحا هو في غير شغل ولغير حاجة، وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء، فالمرح مختال في مشيه وقد قال عليه السلام «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» ، وقال: «بينما رجل من بني إسرائيل يجر ثوبه خيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» ، وقال مجاهد «الفخور» هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تعالى.

قال الفقيه الإمام القاضي: وفي الآية الفخر بالنسب وغير ذلك، ولما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله من القصد في المشي وهو أن لا يتخرق في إسراع ولا يواني في إبطاء وتضاؤل على نحو ما قال القائل: [مجزوء الرمل]

كلنا نمشي رويد ... كلنا يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد وأن لا يمشي مختالا متبخترا ونحو هذا مما ليس في قصد، و «غض الصوت» أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه، أي تلك هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات، فكذلك كل ما بعد عن الغض من أصوات البشر فهو في طريق تلك وفي الحديث «إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا» ، وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير، وقال عطاء: صياح الحمير دعاء على الظلمة، وأَنْكَرَ معناه أقبح وأخشن، وأَنْكَرَ عبارة تجمع المذام اللاحقة للصوت الجهير، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت الجهير على خلق الجاهلية ومنه قول الشاعر يمدح آخر: [المتقارب]

<<  <  ج: ص:  >  >>