للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المخلوقين، ثم أخبر عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات، وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه، ولا ينكر أن عيسى عليه السلام من المصورين في الأرحام، فهذه الآية تعظيم لله تعالى في ضمنها الرد على نصارى نجران، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ وعيد ما لهم، فسر بنحو هذا محمد بن جعفر بن الزبير والربيع، وفي قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ رد على أهل الطبيعة، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الرحم مكثت نطفة أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكا فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه، وفي مسند ابن سنجر حديث: إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة، وصور بناء مبالغة من: صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتا فيها، جاء بناؤه على المبالغة، والرحم موضع نشأة الجنين، وكَيْفَ يَشاءُ يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الاختلافات، والْعَزِيزُ الغالب والْحَكِيمُ ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير.

والْكِتابَ في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين، والمحكمات، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادئ النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل، إلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب مُتَشابِهاتٌ، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح، عن النبي عليه السلام، الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراما في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئا حلالا وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسدا فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية، ألا ترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه؟ قال نعم، قالوا: فحسبنا إذا.

قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا التشابه، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: ٢٣] وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات، وقال ابن عباس أيضا: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل، والمتشابه منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات.

قال الفقيه الإمام: وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك، وقال مجاهد وعكرمة:

المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضا، وذلك مثل قوله: وَما

<<  <  ج: ص:  >  >>