للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الظالم، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، وقوله: دين الله يسر وقوله: بعثت بالحنيفية، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله، وقرأ أبان بن تغلب: «قل صدق» ، بإدغام اللام في الصاد، وكذلك:

قل سيروا، قرأها بإدغام اللام في السين، قال أبو الفتح: علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامهما فيهما، وقرأ جمهور الناس: «وضع» على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول، وقرأ عكرمة، «وضع» بفتح الواو والضاد، فيحتمل أن يريد: وضع الله، فيكون المعنى منقطعا كما هو في قراءة الجمهور، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى متصلا بالذي قبله، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته، في الحج وغيره على ما روى عكرمة: أنه لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية، قال اليهود: نحن على الإسلام فقرئت، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: ٩٧] قيل له: أحجهم يا محمد، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام.

قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعا، ويضعف ما قال الزجّاج: من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود، اللهم إلا أن يكون جدده، وأين مدة سليمان من مدة إبراهيم؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله: إِنَّ أَوَّلَ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: معنى الآية أن أول بيت وضع مباركا وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى، وقال قوم: بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض.

قال الفقيه القاضي أبو محمد: ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجّاج: من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديدا، قال قتادة: ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان، واختلف الناس في «بكة» ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء: «بكة» هي مكة، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم، على لغة مازن وغيرهم، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله، و «بكة» مزدحم الناس حيث يتباكون، وهو المسجد وما حول البيت، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية: «بكة» موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، قال ابن القاسم: يريد القرية، قال الطبري: ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة، وقال قوم: «بكة» ، ما بين الجبلين ومكة، الحرم كله، ومُبارَكاً نصب على الحال، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال،

<<  <  ج: ص:  >  >>