للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله عز وجل:

[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٨ الى ١٩]

وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)

في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع الْيَهُودُ وَالنَّصارى يقولون عن جميعهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة. وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك. وقالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوما ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبا على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرا كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.

وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى، والرسول في قوله: رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما، والفترة سكون بعد حركة في جرم، ويستعار ذلك في المعاني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل عمل شدة، ولكل شدة فترة» ، وقال الشاعر:

وإني لتعروني لذكراك فترة

معناه سكون بعد اضطراب، واختلف الناس في قدر الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاما. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي

<<  <  ج: ص:  >  >>