للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْذِفُوا الْأَلِفَ مِنْهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ آخِرَ الِاسْمِ وَالْحَذْفُ يَلْحَقُهَا إِذَا كَانَ آخِرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ في شعر كقوله:

غلاما قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونُ (مَا) رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ خَبَرُهَا (ذَا) وَالْعَرَبُ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ (ذَا) بِمَعْنَى الَّذِي، فَيَقُولُونَ: مَنْ ذَا يَقُولُ ذَاكَ؟ أَيْ مَنْ ذَا الَّذِي يقول ذاك، فعلى هذ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَسْأَلُونَكَ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا عَمَّا يُنْفِقُونَ لَا عَمَّنْ تُصْرَفُ النَّفَقَةُ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ أَجَابَهُمْ بِهَذَا؟.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْآيَةِ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ وَضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةً بِهَا يَكْمُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرُوفًا إِلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ تَكْمِيلًا لِلْبَيَانِ وَثَانِيهَا:

قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ وَارِدًا بِلَفْظِ (مَا) إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ: السُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ إِنْفَاقُ مَالٍ يَخْرُجُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا لَمْ يَنْصَرِفِ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَإِذَا خَرَجَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالسُّؤَالِ أَنَّ مَصْرِفَهُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ...

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ [الْبَقَرَةِ: ٧٠- ٧١] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَقَرَةَ هِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي شَأْنُهَا وَصِفَتُهَا كَذَا، فَقَوْلُهُ: مَا هِيَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْمَاهِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبَ الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا تَتَمَيَّزُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ مطابق لذلك السؤال، فكذا هاهنا لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الَّذِي أُمِرُوا بِإِنْفَاقِهِ مَا هُوَ، وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَاذَا يُنْفِقُونَ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ طَلَبُ الْمَصْرِفِ فَلِهَذَا حَسُنَ الْجَوَابُ وَثَالِثُهَا:

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا هَذَا/ السُّؤَالَ فَكَأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: هذا السؤال فَاسِدٌ أَنْفِقْ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَالًا حَلَالًا وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى الْمَصْرِفِ وَهَذَا مِثْلُ مَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ صَحِيحَ الْمِزَاجِ لَا يَضُرُّهُ أَكْلُ أَيِّ طَعَامٍ كَانَ، فَقَالَ لِلطَّبِيبِ: مَاذَا آكُلُ؟ فَيَقُولُ الطَّبِيبُ: كُلْ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، كَانَ الْمَعْنَى: كُلْ مَا شِئْتَ لَكِنْ بِهَذَا الشَّرْطِ كذا هاهنا الْمَعْنَى: أَنْفِقْ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرِفُ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى التَّرْتِيبَ فِي الْإِنْفَاقِ، فَقَدَّمَ الْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا كَالْمُخْرِجِ لَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ رَبَّيَاهُ فِي الْحَالِ الَّذِي كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَكَانَ إِنْعَامُهُمَا عَلَى الِابْنِ أَعْظَمَ مِنْ إِنْعَامِ غَيْرِهِمَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَوْجَبُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْإِنْسَانَ من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والولدان هُمَا اللَّذَانِ أَخْرَجَاهُ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَقَّهُمَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلِهَذَا أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فِي رِعَايَةِ الْحُقُوقِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ الْأَقْرَبِينَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ جَمِيعِ