للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمُعَاذًا وَنَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهَا مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ، مُسْلِبَةٌ لِلْمَالِ، فَنَزَلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فَشَرِبَهَا قَوْمٌ وَتَرَكَهَا آخَرُونَ، ثُمَّ دَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نَاسًا مِنْهُمْ، فَشَرِبُوا وَسَكِرُوا، فَقَامَ بَعْضُهُمْ يصلي فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَنَزَلَتْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: ٤٣] فَقَلَّ مَنْ شَرِبَهَا، ثُمَّ اجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلَمَّا سَكِرُوا افْتَخَرُوا وَتَنَاشَدُوا الْأَشْعَارَ حَتَّى أَنْشَدَ سَعْدٌ شِعْرًا فِيهِ هِجَاءٌ لِلْأَنْصَارِ، فَضَرَبَهُ أَنْصَارِيٌّ بَلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُوضِحَةً، فَشَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَةِ: ٩١] فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

وَالْحِكْمَةُ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ انْتِفَاعُهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرًا، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ اسْتَعْمَلَ فِي التَّحْرِيمِ هَذَا التَّدْرِيجَ، وَهَذَا الرِّفْقَ، وَمِنَ/ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَّا مَعَ السُّكْرِ، فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الشُّرْبِ ضِمْنًا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَنَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْخَمْرَ مَا هُوَ؟ ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.

أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْخَمْرَ مَا هو؟ [النوع الأول مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ] قال الشافعي رحمه الله: كل شراب مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ عِبَارَةٌ عَنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الشَّدِيدِ الَّذِي قَذَفَ بِالزَّبَدِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَهِيَ تُتَّخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ تُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا كُلَّهَا خَمْرًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ يَوْمَ حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمس، وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ يَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْحَقَ بِهَا كُلَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ شَرَابٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ، وَرِوَايَتُهُ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَغَيَّرَهُ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:

رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْبُرِّ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا»

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ تَعْلِيمَ اللُّغَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانَ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْخَمْرِ ثَابِتٌ فِيهَا، أَوِ الْحُكْمَ الْمَشْهُورَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْخَمْرَ هُوَ حُرْمَةُ الشُّرْبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَخْصِيصُ الْخَمْرِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُهَا خُصُوصًا لِكَوْنِهَا مَعْهُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكُلُّ