للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَالْقَرِينَةُ تُخْرِجُهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْبَرَاءَةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ سَبْقِ الشَّغْلِ، وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْآيِسَةُ فَهُمَا خَارِجَتَانِ عَنِ اللَّفْظِ لِأَنَّ إِيجَابَ الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ تَحْصُلُ الْأَقْرَاءُ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَمْ تَحْصُلِ الْأَقْرَاءُ فِي حَقِّهِمَا، وَأَمَّا الرَّقِيقَةُ فَتَزْوِيجُهَا كَالنَّادِرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَعَمَّ الْأَغْلَبَ بَاقٍ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ لَا شَكَّ أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَمْرِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِذَا شَرَعْتَ فِيهَا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْمَقْصُودِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِذَلِكَ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا إِذَا قَصَدَتْ أَدَاءَ التَّكْلِيفِ، أَمَّا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا التَّكْلِيفَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ زَالَ ذَلِكَ الْوَهْمُ، وَعُرِفَ أَنَّهُ مَهْمَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، سَوَاءٌ عَلِمَتْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَسَوَاءٌ شَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ بِالرِّضَا أَوْ بِالْغَضَبِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : التَّعْبِيرُ عَنِ الْأَمْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِهِ، فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَكَ اللَّهُ أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ ثِقَةً بِالْإِجَابَةِ كَأَنَّهَا وُجِدَتِ الرَّحْمَةُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهَا.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَوْ قَالَ يَتَرَبَّصُ الْمُطَّلَقَاتُ: لَكَانَ ذَلِكَ جُمْلَةً مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَجَعْلِ الْمُطَلَّقَاتِ مُبْتَدَأً، ثُمَّ قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ إسناد الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، ثُمَّ جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ.

الْجَوَابُ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» : إِنَّكَ إِذَا قَدَّمْتَ الِاسْمَ فَقُلْتَ: زَيْدٌ فَعَلَ فَهَذَا يُفِيدُ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْقُوَّةِ مَا لَا يُفِيدُهُ قَوْلُكَ: فَعَلَ زَيْدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فَعَلَ يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِكَ: أَنَا أَكْتُبُ فِي الْمُهِمِّ الْفُلَانِيِّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَى الْإِنْسَانِ الِانْفِرَادَ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ بِحَدِيثِ كَذَا لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ لَا يُرِيدُ الْحَصْرَ، بَلْ أَنْ يُحَقِّقَ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ إِعْطَاءَ الْجَزِيلِ دَأْبُهُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْلِ: ٢٠] لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الْمَخْلُوقِيَّةِ وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [الْمَائِدَةِ: ٦١] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

هُمَا يَلْبَسَانِ الْمَجْدَ أَحْسَنَ لُبْسَةٍ ... شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كِلَاهُمَا

وَالسَّبَبُ فِي حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ أَشْعَرْتَ بِأَنَّكَ تُرِيدُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ، فَيَحْصُلُ فِي الْعَقْلِ شَوْقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَإِذَا ذَكَرْتَ ذَلِكَ الْخَبَرَ قَبِلَهُ الْعَقْلُ قَبُولَ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي التَّحْقِيقِ ونفي الشبهة.