للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الرَّجْعَةِ فَهَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَنْ ذَكَرَ حُكْمًا يَتَنَاوَلُ صُوَرًا كَثِيرَةً، وَكَانَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الصُّوَرِ أَهَمَّ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُعِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ تِلْكَ الصُّورَةَ الْخَاصَّةَ مَرَّةً أُخْرَى، لِيَدُلَّ ذَلِكَ التَّكْرِيرُ عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ عِنْدَ مُشَارَفَةِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوَالِ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ رِعَايَةَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ مُشَارَفَةِ زَوَالِ الْعِدَّةِ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ/ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ يُرَاجِعَهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ آخِرِ الْأَجَلِ حَتَّى تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْمُضَارَّةِ لَمْ يَقْبُحْ أَنَّ يُعِيدَ اللَّهُ حُكْمَ هَذِهِ الصُّورَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَعْظَمُ الصُّوَرِ اشْتِمَالًا عَلَى الْمُضَارَّةِ وَأَوْلَاهَا بِأَنْ يَحْتَرِزَ الْمُكَلَّفُ عَنْهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمُرَاجَعَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا طَلَاقٌ إِلَّا بِكَلَامٍ، لَمْ تَكُنِ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِكَلَامٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ نَوَى الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ كَانَتْ رَجْعَةً وَإِلَّا فَلَا.

حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا

رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا»

حَتَّى تَطْهُرَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالمراجعة مطلقا، وقيل: دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا بِالْمُرَاجَعَةِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَمَا كَانَ مَأْذُونًا بِالْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَطْءُ رَجْعَةً وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَمَرَ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا وَطِئَهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِيًا، أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَجِبُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ فِي «الْإِمْلَاءِ» : هُوَ وَاجِبٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا إِلَّا إِذَا عَرَفَهُ الْغَيْرُ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِرْفَانُ غَيْرِ الشَّاهِدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِرْفَانُ الشَّاهِدِ وَاجِبًا وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُرَاعَاةُ وَإِيصَالُ الْخَيْرِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ، وَبُلُوغُ الْأَجَلِ عِبَارَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ مُشَارَفَةُ الْبُلُوغِ لَا نَفْسُ الْبُلُوغِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الَّذِي يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِذَا قَارَبَ الْبَلَدَ: قَدْ بَلَغْنَا الثَّانِي: أَنَّ الْأَجَلَ اسْمٌ لِلزَّمَانِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ آخِرُ زَمَانٍ يُمْكِنُ إِيقَاعُ الرَّجْعَةِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ إِذَا فَاتَ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ مُكْنَةُ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْمَجَازِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ففيه مسألتان: