للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التَّقْسِيمُ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَيُقَالُ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُوجِبُ بَدَلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا أَوْ غَيْرَ مَذْكُورٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَذْكُورًا، فَإِنْ حَصَلَ الدُّخُولُ اسْتَقَرَّ كُلُّهُ، وَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ سَقَطَ نِصْفُ الْمَذْكُورِ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي تَجِيءُ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَدَلُ مَذْكُورًا فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ فَهُوَ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَإِنْ حَصَلَ الدُّخُولُ فَحُكْمُهَا غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَمَّا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ جَائِزٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ/ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّطْلِيقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الثَّلَاثِ مِنْهَا فَيُقَالُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ إِلَّا إِذَا طَلَّقْتُمُوهُنَّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْجُنَاحُ، قَالُوا: وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّطْلِيقَاتِ، أَعْنِي حَالَ الْإِفْرَادِ وَحَالَ الْجَمْعِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَطْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَنَقُولُ: يُشْكِلُ هَذَا بِالْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صَلِّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ وَصُمْ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُمَاسُّوهُنَّ بِالْأَلْفِ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْزَابِ وَالْبَاقُونَ تَمَسُّوهُنَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ، حُجَّةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ بَدَنَ كُلِّ وَاحِدٍ يَمَسُّ بَدَنَ صَاحِبِهِ وَيَتَمَاسَّانِ جَمِيعًا وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [الْمُجَادَلَةِ: ٣] وَهُوَ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ:

وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٧] وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ عَلَى الْمَعْنَى بِفِعْلٍ دُونَ فَاعِلٍ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ [الرَّحْمَنِ: ٥٦] وَكَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَسِّ: الْغِشْيَانُ، وَذَلِكَ فِعْلُ الرَّجُلِ، وَيَدُلُّ في الآية الثانية على الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْمَسِّ الْغِشْيَانُ، وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الظِّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاسَّةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْجِمَاعِ وَهِيَ حَرَامٌ فِي الظِّهَارِ، وَبَعْضُ مَنْ قَرَأَ: تُمَاسُّوهُنَّ قَالَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى تَمَسُّوهُنَّ لأن فَاعَلَ قَدْ يُرَادُ بِهِ فَعَلَ، كَقَوْلِهِ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَهُوَ كَثِيرٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ نَفْيَ الْجَنَاحِ عَنِ الْمُطَلِّقِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْمَسِيسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ الْمَسِيسِ.

وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ ثَابِتٍ