للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:

وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَالثَّالِثَةُ: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّبْرِ إِلَّا الْقَصْدُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِلثَّبَاتِ إِلَّا السُّكُونُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ الْمُسَمَّى بِالصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَعَلَى أَنَّ الثَّبَاتَ وَالسُّكُونَ الْحَاصِلَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَصْدِ أَيْضًا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَبِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّبْرِ وَتَثْبِيتِ الْقَدَمِ تَحْصِيلُ أَسْبَابِ الصَّبْرِ، وَأَسْبَابِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ، وَتِلْكَ الْأَسْبَابُ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْجُبْنَ مِنْهُمْ فَيَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْهُمُ الِاضْطِرَابُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَيَصِيرَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى الْقِتَالِ وَتَرْكِ الِانْهِزَامِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَلْطُفَ بِبَعْضِ أَعْدَائِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَيَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ وَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُحْدِثَ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ مِنَ/ الْبَلَاءِ مِثْلَ الْمَوْتِ وَالْوَبَاءِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَفَرَّغُونَ حِينَئِذٍ لِلْمُحَارَبَةِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِمَرَضٍ وَضَعْفٍ يَعُمُّهُمْ أَوْ يَعُمُّ أَكْثَرَهُمْ، أَوْ يَمُوتَ رَئِيسُهُمْ وَمَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ فَيَعْرِفَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ قُلُوبِهِمْ، وَمُوجِبًا لِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى السُّكُوتِ وَالثَّبَاتَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكُونِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الْعَبْدِ وَمُرَادَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْرِفُونَ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَحْمِلُونَهُ عَلَى أَسْبَابِ الصَّبْرِ وَثَبَاتِ الْأَقْدَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي سَلَّمْتُمْ أَنَّهَا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَصَلَتْ وَوُجِدَتْ فَهَلْ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ الدَّاعِي أَوْ لَيْسَ لَهَا أَثَرٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِهَا مِنَ اللَّهِ فَائِدَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّرْجِيحِ فَعِنْدَ صُدُورِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُرَجَّحَةِ مِنَ اللَّهِ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ، وَعِنْدَ حُصُولِ الرُّجْحَانِ يَمْتَنِعُ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ، فَيَجِبُ حُصُولُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ، لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النقيض وهو المطلوب والله أعلم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥١]]

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)

الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَأَفْرَغَ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ، وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ: جَالُوتَ وَجُنُودِهِ وَحَقَّقَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنَّ مَنْ قَالَ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وفَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَصْلُ الْهَزْمِ فِي اللُّغَةِ الْكَسْرُ، يُقَالُ سِقَاءٌ مُنْهَزِمٌ إِذَا تَشَقَّقَ مَعَ جَفَافٍ، وَهَزَمْتُ الْعَظْمَ أَوِ الْقَصَبَةَ هَزْمًا، وَالْهَزْمَةُ نُقْرَةٌ فِي الْجَبَلِ، أَوْ فِي الصَّخْرَةِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي زَمْزَمَ: هِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ يُرِيدُ هَزَمَهَا بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ، وَيُقَالُ: سَمِعْتُ هَزْمَةَ/ الرَّعْدِ كَأَنَّهُ صَوْتٌ فِيهِ تَشَقُّقٌ، وَيُقَالُ لِلسَّحَابِ: هَزِيمٌ، لِأَنَّهُ يَتَشَقَّقُ بِالْمَطَرِ، وَهَزَمَ الضَّرْعَ وَهَزْمُهُ مَا يُكْسَرُ مِنْهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ وتوفيقه