للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ فَنِعِمَّا هِيَ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ وَفِي تَقْرِيرِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى تَحْرِيكِ الْعَيْنِ حَرَّكُوهَا مِثْلَ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ (نِعِمْ) بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ:

وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ فَنِعِمَّا هِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ أَتَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلِهَا وَهِيَ (نَعِمْ) قال طرفة:

نعم الساعون في الأمر المير

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا فِي تَأْوِيلِ الشَّيْءِ، أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هُوَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيِّدُ: فِي تَمْثِيلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: ما في تأويل شيء، لأن ما هاهنا نَكِرَةٌ، فَتَمْثِيلُهُ بِالنَّكِرَةِ أَبْيَنُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ما نكرة هاهنا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةً فَلَا بُدَّ لَهَا من الصلة، وليس هاهنا مَا يُوصَلُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ بَعْدَ مَا هُوَ هِيَ، وَكَلِمَةُ هِيَ مُفْرَدَةٌ وَالْمُفْرَدُ لَا يَكُونُ صِلَةً لِمَا وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ فَنَقُولُ: مَا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالتَّقْدِيرُ: نِعْمَ شَيْئًا هِيَ إِبْدَاءُ الصَّدَقَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّطَوُّعُ، أَوِ الْوَاجِبُ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا.

فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ، وَالْإِظْهَارَ فِي الزَّكَاةِ أَفْضَلُ، وَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي إِعْطَاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِخْفَاؤُهُ، أَوْ إِظْهَارُهُ، فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا الْوُجُوهَ الدالة على إِخْفَاءَهُ أَفْضَلُ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ،

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقبل الله مُسْمِعٍ وَلَا مُرَاءٍ وَلَا مَنَّانٍ»

وَالْمُتَحَدِّثُ بِصَدَقَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْلُبُ السُّمْعَةَ وَالْمُعْطِي فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ يَطْلُبُ الرِّيَاءَ، وَالْإِخْفَاءُ وَالسُّكُوتُ هُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْهُمَا، وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فِي قَصْدِ الْإِخْفَاءِ، وَاجْتَهَدُوا أَنْ لَا يَعْرِفَهُمُ الْآخِذُ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي يَدِ أَعْمَى، وَبَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي طَرِيقِ الْفَقِيرِ، وَفِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ حَيْثُ يَرَاهُ وَلَا يَرَى الْمُعْطِيَ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَشُدُّهُ فِي أَثْوَابِ الْفَقِيرِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُوصِلُ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ عَنِ الْكُلِّ الِاحْتِرَازُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمِنَّةِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا عَرَفَ الْمُعْطِيَ فَقَدْ حَصَلَ الرِّيَاءُ وَالْمِنَّةَ مَعًا وَلَيْسَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُتَوَسِّطِ الرِّيَاءُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ إِذَا أَخْفَى صَدَقَتَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَيْنَ النَّاسِ شُهْرَةٌ وَمَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ، فَكَانَ/ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَثَالِثُهَا:

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ إِلَى الْفَقِيرِ فِي سِرٍّ»

وَقَالَ أَيْضًا «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا فِي السِّرِّ يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ سِرًّا فَإِنْ أَظْهَرَهُ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَكُتِبَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنْ تَحَدَّثَ بِهِ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَكُتِبَ فِي الرِّيَاءِ»

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: أَحَدُهُمْ رَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَلَمْ تَعْلَمْ شِمَالُهُ بِمَا أَعْطَاهُ يَمِينُهُ»

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ»

وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِظْهَارَ يُوجِبُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْآخِذِ مِنْ وُجُوهٍ، وَالْإِخْفَاءَ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى، وَبَيَانُ تِلْكَ الْمَضَارِّ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ هَتْكَ عِرْضِ الْفَقِيرِ وَإِظْهَارَ فَقْرِهِ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى الْفَقِيرُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ إِخْرَاجَ الْفَقِيرِ مِنْ هَيْئَةِ التَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الْبَقَرَةِ: ٢٧٣] وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ رُبَّمَا أَنْكَرُوا عَلَى الْفَقِيرِ أَخْذَ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، وَيَظُنُّونَ