للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسألة الأولى: ذكرنا اشتقاق في السَّفَرِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٤] ونعيده هاهنا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: تَرْكِيبُ هَذِهِ الْحُرُوفِ لِلظُّهُورِ وَالْكَشْفِ فَالسَّفَرُ هُوَ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ، وَسُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا، لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ، أَيْ يَكْشِفُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْكِنِّ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَقَدِ انْكَشَفَ لِلنَّاسِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَقَدْ صَارَتْ أَرْضُ الْبَيْتِ مُنْكَشِفَةً خَالِيَةً، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا ظَهَرَ، وَأَسْفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا، أَيْ كَشَفَتْ وَسَفَرْتُ عَنِ الْقَوْمِ أُسْفِرُ سِفَارَةً إِذَا كَشَفْتَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَفَرْتُ أُسْفِرُ إِذَا كَنَسْتَ، وَالسَّفْرُ الْكَنْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِذَا كَنَسْتَ، فَقَدْ أَظْهَرْتَ مَا كَانَ تَحْتَ الْغُبَارِ وَالسَّفْرُ مِنَ الْوَرَقِ مَا سَفَرَ بِهِ الرِّيحُ، وَيُقَالُ لِبَقِيَّةِ بَيَاضِ النَّهَارِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ سَفَرٌ لِوُضُوحِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الرَّهْنِ مِنَ الدَّوَامِ، يُقَالُ: رَهُنَ الشَّيْءُ إِذَا دَامَ وَثَبَتَ، وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ أَيْ دَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ.

إِذَا عَرَفْتَ أَصْلَ الْمَعْنَى فَنَقُولُ: أَصْلُ الرَّهْنِ مَصْدَرٌ. يُقَالُ: رَهَنْتُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَرْهَنُهُ رَهْنًا إِذَا وَضَعْتَ عِنْدَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

يُرَاهِنُنِي فَيُرْهِنُنِي بَنِيهِ ... وَأُرْهِنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْمَصَادِرَ قَدْ تُنْقَلُ فَتُجْعَلُ أَسْمَاءً وَيَزُولُ عَنْهَا عَمَلُ الْفِعْلِ، فَإِذَا قَالَ: رَهَنْتُ عِنْدَ زَيْدٍ رَهْنًا لَمْ يَكُنِ انْتِصَابُهُ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لَكِنِ انْتِصَابُ الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَا تَقُولُ: رَهَنْتُ عِنْدَ زَيْدٍ ثَوْبًا، وَلَمَّا جُعِلَ اسْمًا بِهَذَا الطَّرِيقِ جُمِعَ كَمَا تُجْعَلُ الْأَسْمَاءُ وَلَهُ جَمْعَانِ: رُهُنٌ وَرِهَانٌ، وَمِمَّا جَاءَ عَلَى رُهُنٍ قَوْلُ الْأَعْشَى:

آلَيْتُ لَا أُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهُنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا

وَقَالَ بُعَيْثٌ:

بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ

وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: رَهْنٌ وَرُهُنٌ، سَقْفٌ وَسُقُفٌ، وَنَشْرٌ وَنُشُرٌ، وَخَلْقٌ وَخُلُقٌ، قال الزجاج: فعل وفعلى قَلِيلٌ، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرَّهْنَ جَمْعُهُ رِهَانٌ، ثُمَّ الرِّهَانُ جَمْعُهُ رُهُنٌ فَيَكُونُ رُهُنٌ جَمْعَ الْجَمْعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ ثِمَارٌ وَثُمُرٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ عَكَسَ هَذَا فَقَالَ: الرُّهُنُ جَمْعُهُ رَهْنٌ، وَالرَّهْنُ جَمْعُهُ رِهَانٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا لَا سِيَّمَا وَسِيبَوَيْهِ لَا يَرَى جَمْعَ الْجَمْعِ مُطَّرِدًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ إِلَّا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا أَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ فَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ، مِثْلُ نَعْلٍ وَنِعَالٍ، وَكَبْشٍ وَكِبَاشٍ/ وَكَعْبٍ وَكِعَابٍ، وَكَلْبٍ وَكِلَابٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ ابن كثير أبو عَمْرٍو فَرُهُنٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَيْضًا فَرُهْنٌ بِرَفْعِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْبَاقُونَ فَرِهانٌ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إلا في الخليل، فَقَرَأْتُ فَرُهُنٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَبَيْنَ جَمْعِ الرَّهْنِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، فَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا قَبِيحَةٌ لِأَنَّ فَعْلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إِلَّا قَلِيلًا شَاذًّا كَمَا يُقَالُ: سُقْفٌ وَسُقُفٌ تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها، وَقُلُبٌ لِلنَّخْلِ وَلُحْدٌ وَلُحُدٌ وَبُسْطٌ وَبُسُطٌ وَفُرْسٌ وُرْدٌ، وَخَيْلٌ وُرُدٌ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ فَإِنْ شِئْنَا جَعَلْنَاهُ مُبْتَدَأً وَأَضْمَرْنَا الْخَبَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَرَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ بَدَلٌ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، أَوْ فَعَلَيْهِ رَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ، وَإِنْ شِئْنَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا وَأَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ، وَالتَّقْدِيرُ:

فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَتِ الْفُقَهَاءُ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْكَاتِبِ