للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التَّحْرِيكُ، لِأَنَّهُ يَسْهُلُ النُّطْقُ بِمِثْلِ هَذَيْنِ السَّاكِنَيْنِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا إِبْرَاهِيمْ وَإِسْحَاقْ وَيَعْقُوبْ مَوْقُوفَةُ الْأَوَاخِرِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَجَبَ التَّحْرِيكُ لِأَنَّهُ لَا يَسْهُلُ النُّطْقُ بِمِثْلِ هَذَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ النُّطْقُ إِلَّا بِالْحَرَكَةِ.

الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ حَرْفَ التَّعْرِيفِ هِيَ اللَّامُ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَالسَّاكِنُ لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَقَدَّمُوا عَلَيْهَا هَمْزَةَ الْوَصْلِ وَحَرَّكُوهَا لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى النُّطْقِ بِاللَّامِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدُوا قَبْلَ لَامِ التَّعْرِيفَ حَرْفًا آخَرَ فَإِنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا تَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ اللَّامِ السَّاكِنَةِ وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا حَرَّكُوهُ وَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ اللَّامِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَنْ يُتَوَصَّلَ بِحَرَكَتِهَا إِلَى النُّطْقِ بِاللَّامِ، فَإِذَا حَصَلَ حَرْفٌ آخَرُ تَوَصَّلُوا بِحَرَكَتِهِ إِلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ اللَّامِ، فَتُحْذَفُ هَذِهِ الْهَمْزَةُ صُورَةً وَمَعْنًى، حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْمِيمِ لِتَدُلَّ تلك الحركة عل كَوْنِهَا بَاقِيَةً حُكْمًا، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ، لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الْهَمْزَةَ سَقَطَتْ بِذَاتِهَا وَبِآثَارِهَا سُقُوطًا كُلِّيًّا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الْفَرَّاءِ.

الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَسْمَاءُ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَوْقُوفَةُ الْأَوَاخِرِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فَنَقُولُ: الْمِيمُ مِنْ قَوْلِنَا الم سَاكِنٌ وَلَامُ التَّعْرِيفِ مِنْ قَوْلِنَا اللَّهُ سَاكِنٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فَوَجَبَ تَحْرِيكُ الْمِيمِ، وَلَزِمَ سُقُوطُ الْهَمْزَةِ بِالْكُلِّيَّةِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَصَحَّ بِهَذَا الْبَيَانِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَبَطَلَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ.

أَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: السَّاكِنُ إِذَا حُرِّكَ حُرِّكَ إِلَى الْكَسْرِ، فَلِمَ اخْتِيرَ الْفَتْحُ/ هَاهُنَا، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: الْكَسْرُ هَاهُنَا لَا يَلِيقُ، لِأَنَّ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِنَا الم مَسْبُوقَةٌ بِالْيَاءِ فَلَوْ جَعَلْتَ الْمِيمَ مَكْسُورَةً لَاجْتَمَعَتِ الْكَسْرَةُ مَعَ الْيَاءِ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ، فَتُرِكَتِ الْكَسْرَةُ وَاخْتِيرَتِ الْفَتْحَةُ، وَطَعَنَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَقَالَ: يَنْتَقِضُ قَوْلُهُ بِقَوْلِنَا: جَيْرِ، فَإِنَّ الرَّاءَ مَكْسُورَةٌ مَعَ أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِالْيَاءِ، وَهَذَا الطَّعْنُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكَسْرَةَ حَرَكَةٌ فِيهَا بَعْضُ الثِّقَلِ وَالْيَاءُ أُخْتُهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ الثِّقِلُ، ثُمَّ يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى النُّطْقِ بِالْأَلِفِ فِي قَوْلِكَ اللَّهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخِفَّةِ، فَيَصِيرُ اللِّسَانُ مُنْتَقِلًا مِنْ أَثْقَلِ الْحَرَكَاتِ إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الضِّدِّ إِلَى الضِّدِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً صَعْبٌ عَلَى اللِّسَانِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمِيمَ مَفْتُوحَةً، انْتَقَلَ اللِّسَانُ مِنْ فَتْحَةِ الْمِيمِ إِلَى الْأَلِفِ فِي قَوْلِنَا اللَّهُ فَكَانَ النُّطْقُ بِهِ سَهْلًا، فَهَذَا وَجْهُ تَقْرِيرِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: أَنَّ بَعْضَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْيَهُودِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الم، ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: ١، ٢] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ إِلَى آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ فِي النَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ

قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ كَانُوا أَكَابِرَ الْقَوْمِ، أَحَدُهُمْ: أَمِيرُهُمْ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالثَّانِي: مُشِيرُهُمْ وَذُو رَأْيِهِمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: السَّيِّدُ، وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ، وَالثَّالِثُ: حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم، يُقَالُ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ،