للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَقْوِيَاءَ وَأَرْبَابَ الْعُدَّةِ وَالْعِدَّةِ فَإِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ ثُمَّ ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الْحِكَمِ، فَقَالَ:

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ يَعْنِي وَاقِعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْعُدَّةَ كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الْكُفَّارِ وَالْقِلَّةَ وَعَدَمَ السِّلَاحِ مِنْ جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَ الْكُفَّارَ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ مُظَفَّرِينَ مَنْصُورِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْغَلَبَةَ كَانَتْ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَالِبًا لِجَمِيعِ الْخُصُومِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَقْوِيَاءَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَهَذَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَهْزِمُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَيَقْهَرُهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَرْبَابَ السِّلَاحِ وَالْقُوَّةِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ الْآيَةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ النَّظْمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الْفِئَةُ) الْجَمَاعَةُ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَمُشْرِكُو مَكَّةَ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَفِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ، وَقَادُوا مِائَةَ فَرَسٍ، وَكَانَتْ مَعَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَهْلُ الْخَيْلِ كُلُّهُمْ كَانُوا دَارِعِينَ وَهُمْ مِائَةُ نَفَرٍ، وَكَانَ فِي الرِّجَالِ دُرُوعٌ سِوَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثلاثمائة وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا بَيْنَ كُلِّ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرٌ، وَمَعَهُمْ مِنَ الدُّرُوعِ سِتَّةٌ، وَمِنَ الْخَيْلِ فَرَسَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ آيَةً بَيِّنَةً وَمُعْجِزَةً قَاهِرَةً.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ كَوْنِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ آيَةً بَيِّنَةً وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِمْ مِنْ أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها: قل الْعَدَدِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ خَرَجُوا غَيْرَ قَاصِدِينَ لِلْحَرْبِ فَلَمْ يَتَأَهَّبُوا، وَمِنْهَا قِلَّةُ السِّلَاحِ وَالْفَرَسِ، وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ غَارَةٍ فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ حَصَلَ لِلْمُشْرِكِينَ أَضْدَادُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا: كَثْرَةُ الْعَدَدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ خَرَجُوا مُتَأَهِّبِينَ لِلْحَرْبِ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ سِلَاحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا مُمَارِسِينَ لِلْمُحَارَبَةِ، وَالْمُقَاتَلَةِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْعَدَدِ فِي الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ وَعَدَمِ السِّلَاحِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِأَمْرِ الْمُحَارَبَةِ يَغْلِبُونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مَعَ كَثْرَةِ سِلَاحِهِمْ وَتَأَهُّبِهِمْ لِلْمُحَارَبَةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ كَانَ مُعْجِزًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَوْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ آيَةً أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ عَلَى قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٧] يَعْنِي جَمْعَ قُرَيْشٍ أَوْ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ قَدْ أُخْبِرَ قَبْلَ الْحَرْبِ بِأَنَّ هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، فَلَمَّا وُجِدَ مُخْبَرُ خَبَرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَفْقِ خَبَرِهِ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزًا.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ كَوْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ آيَةً مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالْأَصَحُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ سِتُّمِائَةٍ، وَذَلِكَ مُعْجِزٌ.

فَإِنْ قِيلَ: تَجْوِيزُ رُؤْيَةِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ يُفْضِي إِلَى السَّفْسَطَةِ.