للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خَاضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي الطَّعْنِ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَتَبَ هَاهُنَا مَا لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَكْتُبَ مِثْلَهُ فِي كُتُبِ الْفُحْشِ فَهَبْ أَنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى الطَّعْنِ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى كَتْبِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْفَاحِشِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ وَالْهِدَايَةَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إِعْطَاؤُهُ الثَّوَابَ، وَمِنْ غُفْرَانِ ذَنْبِهِ إِزَالَةُ الْعِقَابِ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يَطْلُبُهُ كُلُّ عَاقِلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَعْنِي غَفُورٌ فِي الدُّنْيَا يَسْتُرُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٢]]

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)

يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الْآيَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُنَا أَنَّ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،

وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لَمَّا اقْتَضَتْ وُجُوبَ مُتَابَعَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَافِقَ أَلْقَى شُبْهَةً فِي الدِّينِ، وَهِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَدَّعِي لنفسه مثل مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إِزَالَةً لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ، فَقَالَ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يَعْنِي إِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مُتَابَعَتِي لَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى فِي عِيسَى بَلْ لِكَوْنِي رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمَّا كَانَ مُبَلِّغُ التَّكَالِيفِ عَنِ اللَّهِ هُوَ الرَّسُولَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ طَاعَتُهُ وَاجِبَةً فَكَانَ إِيجَابُ الْمُتَابَعَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا لِأَجْلِ الشبهة الَّتِي أَلْقَاهَا الْمُنَافِقُ فِي الدِّينِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يَعْنِي إِنْ أَعْرَضُوا فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ الثَّنَاءَ وَالْمَدْحَ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمَنْ كَفَرَ اسْتَوْجَبَ الذِّلَّةَ وَالْإِهَانَةَ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ بَيَّنَ عُلُوَّ دَرَجَاتِ الرُّسُلِ وَشَرَفَ مَنَاصِبِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْنَافَ الْمُكَلَّفِ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينُ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ،

فَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنَ الرِّيحِ

وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لِهَذَا السَّبَبِ قَدَرُوا عَلَى الطَّيَرَانِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَالثَّانِي: لِهَذَا السَّبَبِ قَدَرُوا عَلَى حَمْلِ الْعَرْشِ، لِأَنَّ الرِّيحَ تَقُومُ بِحَمْلِ الْأَشْيَاءِ الثَّالِثُ: لِهَذَا السَّبَبِ سُمُّوا رُوحَانِيِّينَ، وَجَاءَ

فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ،

وَلِهَذَا صَفَتْ وَأَخْلَصَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَنَقُولُ: أَبْدَانُهُمْ مِنَ الرِّيحِ وَأَرْوَاحُهُمْ مِنَ النُّورِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ سُكَّانُ عالم السموات، أَمَّا الشَّيَاطِينُ فَهُمْ كَفَرَةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] وَأَمَّا سَائِرُ الشَّيَاطِينِ فَهُمْ أَيْضًا كَفَرَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَامِ: ١٢١] وَمِنْ خَوَاصِّ الشَّيَاطِينِ أَنَّهُمْ بِأَسْرِهَا أَعْدَاءٌ لِلْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: فَفَسَقَ/ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ