للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السَّبَبُ الثَّانِي: لِهَذَا الِاسْمِ: أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا الِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ، وَإِمَّا طَلَبُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ كُلُّهُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اشْتِغَالٌ بِالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِالْعَجْزِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ طَلَبٌ لِلْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَأَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: لِتَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأُمِّ الْكِتَابِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ: إِمَّا مَعْرِفَةُ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ مَعْرِفَةُ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتِمُّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَلَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الْبَاطِنَةِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ.

السَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْبَشَرِيَّةَ إِمَّا عِلْمُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ وَإِمَّا عِلْمُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ، وَهُوَ عِلْمُ الْفُرُوعِ، وَإِمَّا عِلْمُ تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَظُهُورِ الْأَنْوَارِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمُكَاشَفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَانُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ: فَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ: لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى وُجُودِهِ وُجُودُ مَخْلُوقَاتِهِ، فَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ إِلَّا بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، وَقَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِنِهَايَةِ الرَّحْمَةِ- وَهُوَ كَوْنُهُ رَحْمَانًا رَحِيمًا- ثُمَّ وَصَفَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ- وَهُوَ قَوْلُهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- حَيْثُ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ الْمَظْلُومِينَ، بَلْ يَسْتَوْفِي حُقُوقَهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ، ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي تَقْرِيرِ عِلْمِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثُمَّ مَزَجَهُ أَيْضًا بِعِلْمِ الْأُصُولِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ أَدَاءَ وَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِإِعَانَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي بَيَانِ دَرَجَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا مَحْصُورَةٌ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: حُصُولُ هِدَايَةِ النُّورِ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ دَرَجَاتُ الْأَبْرَارِ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَوَاذِبِ الْإِلَهِيَّةِ، حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ كَالْمَرَايَا الْمَجْلُوَّةِ فَيَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ/ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَبْقَى مَصُونَةً مَعْصُومَةً عَنْ أَوْضَارِ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَنْ أَوْزَارِ الشُّبَهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

وَلَا الضَّالِّينَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْعَالِيَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ بِأُمِّ الْكِتَابِ كَمَا أَنَّ الدِّمَاغَ يُسَمَّى أُمَّ الرَّأْسِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالْمَنَافِعِ.

السَّبَبُ الْخَامِسُ: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ حَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْقَفَّالَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ دُرَيْدٍ يَقُولُ: الْأُمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرَّايَةُ الَّتِي يَنْصِبُهَا الْعَسْكَرُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الحطيم: -