للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ أَنِّي حِينَ كُنْتُ بِخُوَارَزْمَ، أُخْبِرْتُ أَنَّهُ جَاءَ نَصْرَانِيٌّ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّعَمُّقَ فِي مَذْهَبِهِمْ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَشَرَعْنَا فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ لِي: مَا الدَّلِيلُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، نُقِلَ إِلَيْنَا ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ رَدَدْنَا التَّوَاتُرَ، أَوْ قَبِلْنَاهُ لَكِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُعْجِزَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، فَحِينَئِذٍ بَطَلَتْ نُبُوَّةُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِنِ اعْتَرَفْنَا بِصِحَّةِ التَّوَاتُرِ، وَاعْتَرَفْنَا بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا حَاصِلَانِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ قَطْعًا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرُورَةَ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّلِيلِ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ فِي حُصُولِ الْمَدْلُولِ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ:

أَنَا لَا أَقُولُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا بَلْ أَقُولُ إِنَّهُ كَانَ إِلَهًا، فَقُلْتُ لَهُ الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَهَذَا الَّذِي تَقُولُهُ بَاطِلٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِلَهَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا وَلَا عَرَضًا وَعِيسَى عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الشَّخْصِ الْبَشَرِيِّ الْجُسْمَانِيِّ الَّذِي وُجِدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا وَقُتِلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيًّا عَلَى قَوْلِكُمْ وَكَانَ طِفْلًا أَوَّلًا، ثُمَّ صَارَ مُتَرَعْرِعًا، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيُحْدِثُ وَيَنَامُ وَيَسْتَيْقِظُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَالْمُحْتَاجَ لَا يَكُونُ غَنِيًّا وَالْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَالْمُتَغَيِّرَ لَا يَكُونُ دَائِمًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّكُمْ تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْيَهُودَ أَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ وَتَرَكُوهُ حَيًّا عَلَى الْخَشَبَةِ، وَقَدْ مَزَّقُوا ضِلَعَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَحْتَالُ فِي الْهَرَبِ مِنْهُمْ، وَفِي الِاخْتِفَاءِ عَنْهُمْ، وَحِينَ عَامَلُوهُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ أَظْهَرَ الْجَزَعَ الشَّدِيدَ، فَإِنْ كَانَ إِلَهًا أَوْ كَانَ الْإِلَهُ حَالًّا فِيهِ أو كان جزءا من الإله حاك فِيهِ، فَلِمَ لَمْ يَدْفَعْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ؟ وَلِمَ لَمْ يُهْلِكْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ؟ وَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى إِظْهَارِ الْجَزَعِ مِنْهُمْ وَالِاحْتِيَالِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُمْ! وَبِاللَّهِ إِنَّنِي لَأَتَعَجَّبُ جِدًّا! إِنَّ الْعَاقِلَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ، فَتَكَادُ أَنْ تَكُونَ بَدِيهَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةً بِفَسَادِهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ هَذَا الشَّخْصُ الْجُسْمَانِيُّ الْمُشَاهَدُ، أَوْ يُقَالَ حَلَّ الْإِلَهُ بِكُلِّيَّتِهِ فِيهِ، أَوْ حَلَّ بَعْضُ الْإِلَهِ وَجُزْءٌ مِنْهُ فِيهِ وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَوْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْجِسْمَ، فَحِينَ قَتَلَهُ الْيَهُودُ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِأَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا إِلَهَ الْعَالَمِ، فَكَيْفَ بَقِيَ الْعَالَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِلَهٍ! ثُمَّ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ذُلًّا وَدَنَاءَةً الْيَهُودُ، فَالْإِلَهُ الَّذِي تَقْتُلُهُ الْيَهُودُ إِلَهٌ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ! وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْإِلَهَ بِكُلِّيَّتِهِ حَلَّ فِي هَذَا الْجِسْمِ، فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا عَرَضًا امْتَنَعَ حُلُولُهُ فِي الْجِسْمِ، وَإِنْ كَانَ جِسْمًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُلُولُهُ في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بِأَجْزَاءِ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ وُقُوعَ التَّفَرُّقِ فِي أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْإِلَهِ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَحَلِّ، وَكَانَ الْإِلَهُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سُخْفٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ حَلَّ فِيهِ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الْإِلَهِ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَعِنْدَ انْفِصَالِهِ عَنِ الْإِلَهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِلَهُ إِلَهًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ معتبر في تحقق الإلهية، لم يكن جزأ مِنَ الْإِلَهِ، فَثَبَتَ فَسَادُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَكَانَ قَوْلُ النَّصَارَى بَاطِلًا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَعْبُدُ نَفْسَهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ، ثُمَّ قُلْتُ لِلنَّصْرَانِيِّ: وَمَا الَّذِي دَلَّكَ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا؟ فَقَالَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظُهُورُ الْعَجَائِبِ عَلَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِقُدْرَةِ الْإِلَهِ تَعَالَى، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ تُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ