للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَعْنَيَيْنِ وَأُخْرَى بِالْآخَرِ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّمَا قِيلَ عَلَيْنا فِي حَقِّ الرَّسُولِ، لِأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَإِلَيْنَا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيهِمْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِهَاءِ وَهَذَا تَعَسُّفٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: ٤] وَأَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ وَإِلَى قَوْلِهِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ٧٢] .

المسألة الثالثة: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَنُسِخَتْ شَرَائِعُهُمْ كَيْفَ يَكُونُ؟

وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ، أَنَّ شَرْعَهُ لَمَّا صَارَ مَنْسُوخًا، فَهَلْ تَصِيرُ نُبُوَّتُهُ/ مَنْسُوخَةً؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً قَالَ: نُؤْمِنُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا، وَلَا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمُ الْآنَ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ نَسْخَ الشَّرِيعَةِ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ النُّبُوَّةِ قَالَ:

نُؤْمِنُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ فِي الْحَالِ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَوْضِعِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: التَّفَرُّقُ قَدْ يَكُونُ بِتَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ فِي الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي: نُقِرُّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِأَسْرِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَفِي الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِ اللَّهِ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ كَمَا تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَيْ لَا نُفَرِّقُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣] وَذَمَّ قَوْمًا وَصَفَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ فَقَالَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: ٩٤] .

أَمَّا قَوْلُهُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: إِنَّ إِقْرَارَنَا بِنُبُوَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ كَوْنِنَا مُنْقَادِينَ لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَسْلِمِينَ لِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَالَهُ عَلَى خِلَافِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِالرِّضَا وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ وَتِلْكَ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَهُمْ أَهْلُ السِّلْمِ وَالْكَافِرُونَ يُوصَفُونَ بِالْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّقْدِيرُ: لَهُ أَسْلَمْنَا لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنْ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ وَطَلَبِ مَالٍ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَطَلَبِ الْأَمْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٥]]

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)

اعْلَمْ إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ٨٤] أَتْبَعَهُ بِأَنْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ كُلَّ دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْقَبُولَ لِلْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَرْضَى اللَّهُ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَيَرْضَى عَنْ فَاعِلِهِ وَيُثِيبَهُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٧] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ دِينٌ سِوَى الْإِسْلَامِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَالْخُسْرَانُ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ بِحِرْمَانِ الثَّوَابِ، وَحُصُولِ الْعِقَابِ، / وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ التَّأَسُّفِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعَلَى مَا تَحَمَّلَهُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الدُّنْيَا فِي تَقْرِيرِهِ ذَلِكَ الدِّينَ الْبَاطِلَ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ إذ لو كان الإيمان غير الإسلام رجب أَنْ لَا يَكُونَ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الْحُجُرَاتِ: ١٤] يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِسْلَامِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ