للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اتَّقِ اللَّهَ

[الْأَحْزَابِ: ١] فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَّقِي اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَطَاعَهُمْ، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْمَنْعِ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ مَا يُوجِبُ الْغَمَّ الشَّدِيدَ، وَالْغَضَبَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ مُثْلَةُ عَمِّهِ حَمْزَةَ، وَقَتْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَضَبَ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَلِأَجْلِ أَنْ لَا تُؤَدِّيَ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْمَكَارِهِ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَنْعِ تَقْوِيَةً لِعِصْمَتِهِ وَتَأْكِيدًا لِطَهَارَتِهِ وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنْ فَعَلَ لَكِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، فَلَا جَرَمَ أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى اخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النَّحْلِ: ١٢٦، ١٢٧] كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُعَاقِبُ ذَلِكَ الظَّالِمَ فَاكْتَفِ بِالْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: وَإِنْ تَرَكْتَهُ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَهُ أَمْرًا جَازِمًا بِتَرْكِهِ، فَقَالَ: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ: لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَالَ قَلْبُهُ إِلَى اللَّعْنِ عَلَيْهِمُ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِيهِ، فَنَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَدُلُّ هَذَا النَّهْيُ عَلَى الْقَدْحِ فِي الْعِصْمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَكَ مِنْ قِصَّةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَمِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ شَيْءٌ وَعَلَى هَذَا فَنُقِلَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِي شَيْءٌ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ وَثَانِيهَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ مَسْأَلَةِ إِهْلَاكِهِمْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَصَالِحِ فَرُبَّمَا تَابَ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: لَيْسَ لَكَ فِي أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا فِي أَنْ يُعَذِّبَهُمْ شَيْءٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُضَادُّ النَّهْيَ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ خَلْقِي شَيْءٌ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ أَمْرِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَلا لَهُ الْحُكْمُ [الْأَنْعَامِ: ٦٢] وَقَوْلِهِ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: ٤] وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ مَنْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ إِلَّا مَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى أَكْمَلِ دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ اللَّعْنِ لِأَيِّ مَعْنًى كَانَ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى رُبَّمَا عَلِمَ مِنْ حَالِ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ يَتُوبُ، أَوْ إِنْ لَمْ يَتُبْ لَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُولَدُ مِنْهُ وَلَدٌ يَكُونُ مُسْلِمًا بَرًّا تَقِيًّا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّائِقَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُمْهِلَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ الْآفَاتِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ أَوْ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ الْوَلَدُ فَإِذَا حَصَلَ دُعَاءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ، فَإِنْ قُبِلَتْ دَعْوَتُهُ فَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَتُهُ كَانَ ذَلِكَ كَالِاسْتِخْفَافِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ اللَّعْنِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُفَوِّضَ الْكُلَّ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِظْهَارُ عَجْزِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنْ لَا يَخُوضَ الْعَبْدُ فِي أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ، هَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدِي وَالْأَوْفَقُ لِمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كَالْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، فَأَعْلِمْ ذَلِكَ عَمْرًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَوْ هَاهُنَا مَعْنَى حَتَّى، أَوْ إِلَّا أَنْ كَقَوْلِكَ: لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ