للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَعَالَى ثُمَّ قَالَ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَاخِلٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أَوْ قُتِلَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: هَلْ زَيْدٌ قَائِمٌ، فَأَنْتَ إِنَّمَا تَسْتَخْبِرُ عَنْ قِيَامِهِ، إِلَّا أَنَّكَ أَدْخَلْتَ هَلْ عَلَى الِاسْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُقْتَلُ قَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزُّمَرِ: ٣٠] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] وقال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف: ٩] فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَلِمَ قَالَ أَوْ قُتِلَ؟ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ صِدْقَ الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا يَقْتَضِي صِدْقَ جُزْأَيْهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فالشرطية صادقة وجزاءاها كَاذِبَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] فَهَذَا حَقٌّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمَا فَسَادٌ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ وَلَمْ تَرْجِعْ أُمَّتُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُتِلَ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُوجِبُ رُجُوعَ الْأُمَّةِ عَنْ دِينِهِ، فَكَذَا الْقَتْلُ وَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِ، لِأَنَّهُ فَارَقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّدَّ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ شَكُّوا فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَهَمُّوا بِالِارْتِدَادِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أَيْ صِرْتُمْ كُفَّارًا بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَجَعَ وَرَاءَهُ وَانْقَلَبَ عَلَى عَقِبِهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَالْحَقُوا بِدِينِكُمْ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تعالى بين أنه قلته لَا يُوجِبُ ضَعْفًا فِي دِينِهِ بِدَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِالْقِيَاسِ عَلَى مَوْتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَتْلِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الرَّسُولِ لِتَبْلِيغِ الدِّينِ وَبَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَتْلِهِ فَسَادُ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ شَكٌّ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سَوَاءٌ وَقَعَ هَذَا أَوْ ذَاكَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ضَعْفِ الدِّينِ وَوُجُوبِ الِارْتِدَادِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْوَعِيدِ، لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَضُرُّهُ كُفْرُ الْكَافِرِينَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَهَذَا كَمَا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْعِتَابِ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَأْتِي بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا يَضُرُّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَيُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا، ثُمَّ أَتْبَعَ الْوَعِيدَ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْهَزِيمَةِ وَلَمْ تَقَعِ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِ الْعُلَمَاءِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ شَكَرُوا اللَّهَ عَلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ، فَلَا جَرَمَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ،

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَهُوَ مِنْ أَحِبَّاءِ اللَّهِ

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٥]]

وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)

[قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ]