للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ وَعَفَا عَنْكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ، لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَمْرٍ اقْتَرَفُوهُ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: إِذْ تُصْعِدُونَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَخْذِ فِي الْوَادِي كَالْمُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ. وَثَالِثُهَا: التَّقْدِيرُ: لِيَبْتَلِيَكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إِذْ تُصْعِدُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْجَبَلِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الواد وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ إِذْ تَصَعَّدُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، مِنْ تَصَعَّدَ فِي السُّلَّمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِصْعَادُ: الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِبْعَادُ فِيهِ، يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ، وَأَصْعَدَ فِي/ الْأَرْضِ، وَيُقَالُ أَصْعَدْنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ أَسْفَلُ وَأَعْلَى مِثْلَ الْوَادِي وَالنَّهَرِ وَالْأَزِقَّةِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: صَعَّدَ فُلَانٌ يُصَعِّدُ فِي الْوَادِي إِذَا أَخَذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ، وَأَمَّا مَا ارْتَفَعَ كَالسُّلَّمِ فَإِنَّهُ يُقَالُ صَعِدْتُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ: أَيْ لَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ شَدَّةِ الْهَرَبِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَى الشَّيْءِ يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عِنَانَ دَابَّتِهِ، فَإِذَا مَضَى وَلَمْ يُعَرِّجْ قِيلَ لَمْ يَلْوِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اللَّيُّ فِي تَرْكِ التَّعْرِيجِ عَلَى الشَّيْءِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، أَيْ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِي بِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كَانَ يَقُولُ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَنْ كَرَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُحَارَبَةِ مَعَ الْعَدُوِّ.

ثُمَّ قَالَ: فِي أُخْراكُمْ أَيْ آخِرِكُمْ، يُقَالُ: جِئْتُ فِي آخِرِ النَّاسِ وَأُخْرَاهُمْ، كَمَا يُقَالُ: فِي أَوَّلِهِمْ وَأُولَاهُمْ، وَيُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، أَيْ آخِرِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي آخِرِهِمْ، لِأَنَّ الْقَوْمَ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ قَدْ تَقَدَّمُوهُ.

ثُمَّ قَالَ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ الثَّوَابِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ، أَيْ رَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] وَالْمَرْأَةُ تُسَمَّى ثَيِّبًا لِأَنَّ الْوَاطِئَ عَائِدٌ إِلَيْهَا، وَأَصْلُ الثَّوَابِ كُلُّ مَا يَعُودُ إِلَى الْفَاعِلِ مِنْ جَزَاءِ فِعْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسْبِ الْعُرْفِ اخْتُصَّ لَفْظُ الثَّوَابِ بِالْخَيْرِ، فَإِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ الثَّوَابِ هَاهُنَا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ اسْتَقَامَ الْكَلَامُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُرْفِ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَمَا يُقَالُ: تَحِيَّتُكَ الضَّرْبُ، وَعِتَابُكَ السَّيْفُ، أَيْ جَعَلَ الْغَمَّ مَكَانَ مَا يَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: ٣٤] .