للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النَّاسِ كَانُوا مَجْرُوحِينَ، وَثُلْثَهُمُ انْهَزَمُوا، وَثُلْثَهُمْ ثَبَتُوا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُنْهَزِمِينَ، فَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ وَرَدَ الْمَدِينَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ رِجَالٌ دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِمْ، وَجَعَلَ النِّسَاءُ يَقُلْنَ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفِرُّونَ! وَكُنَّ يَحْثِينَ التُّرَابَ فِي وُجُوهِهِمْ وَيَقُلْنَ: هَاكَ الْمِغْزَلَ اغْزِلْ بِهِ، وَمِنْهُمْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْدُوا الْجَبَلَ.

قَالَ الْقَفَّالُ: وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ تَوَلَّوْا وَأَبْعَدُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى سَائِرِ الْجَوَانِبِ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَإِنَّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَ الْجَبَلِ وَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ. وَمِنَ الْمُنْهَزِمِينَ عُمَرُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَوَائِلِ الْمُنْهَزِمِينَ وَلَمْ يَبْعُدْ، بَلْ ثَبَتَ عَلَى الْجَبَلِ إِلَى أَنْ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا عُثْمَانُ انْهَزَمَ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمَا سَعْدٌ وَعُقْبَةُ، انْهَزَمُوا حَتَّى بَلَغُوا مَوْضِعًا بَعِيدًا ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً» وَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: مَا فَعَلَ عُثْمَانُ؟ فَنَقَّصَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ أَعْيَانِي أَزْوَاجُ الْأَخَوَاتِ/ أَنْ يَتَحَابُّوا» وَأَمَّا الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَسَبْعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطِلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ الْخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو دُجَانَةَ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْحَرْثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ هَؤُلَاءِ كَانُوا بَايَعُوهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَوْتِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَخَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَبُو دُجَانَةَ وَالْحَرْثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، ثُمَّ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ أُصِيبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَجِيءُ وَيَجْثُو بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْفِدَاءُ، وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ غَيْرَ مُوَدَّعٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً يَعْنِي الَّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أَيْ حَمَلَهُمْ عَلَى الزِّلَّةِ. وَأَزَلَّ وَاسْتَزَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [البقرة: ٣٦] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: اسْتَزَلَّهُمْ طَلَبَ زِلَّتَهُمْ، كَمَا يُقَالُ اسْتَعْجَلْتُهُ أَيْ طَلَبْتُ عَجَلَتَهُ، وَاسْتَعْمَلْتُهُ طَلَبْتُ عَمَلَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى نَسَبَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص: ١٥] وكقوله يُوسُفَ. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: ١٠٠] وَكَقَوْلِ صَاحِبِ مُوسَى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الْكَهْفِ: ٦٣] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ فِي أَيِّ شَيْءٍ اسْتَزَلَّهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَ الْعَفْوِ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ الْمَعْصِيَةِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَحَوُّلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، بِأَنْ يَكُونَ رَغْبَتُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فَشَلُهُمْ فِي الْجِهَادِ وَعَدُولُهُمْ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ عُوتِبَ فِي هَزِيمَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ إِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَقَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ جِنَايَاتٌ، فَبِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ قَدِرَ الشَّيْطَانُ عَلَى اسْتِزْلَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْا عَلَى جِهَةِ الْمُعَانَدَةِ وَلَا عَلَى جِهَةِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا ذَكَّرَهُمُ الشَّيْطَانُ ذُنُوبًا كَانَتْ لَهُمْ، فَكَرِهُوا لِقَاءَ اللَّهِ إِلَّا عَلَى حَالٍ