للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو (يَغُلَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ، أَيْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَخُونَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ «يَغُلَّ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ، أَيْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يُخَانَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَبَعْضُهَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى. وَبَعْضُهَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ.

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ رِوَايَاتٌ: الْأُولَى:

أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَنِمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، وَتَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ لِبَعْضِ الْمَوَانِعِ، فَجَاءَ قَوْمٌ وَقَالُوا: أَلَا تُقَسِّمُ غَنَائِمَنَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ مِنْهُ دِرْهَمًا أَتَحْسَبُونَ أَنِّي أَغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَدَاءِ الْوَحْيِ، كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِيهِ عَيْبُ دِينِهِمْ وسب آلهتهم، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَتْرَكَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: رَوَى عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ أَشْرَافَ النَّاسِ طَمِعُوا أَنْ يَخُصَّهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْغَنَائِمِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْخَامِسُ:

رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ طَلَائِعَ فَغَنِمُوا غَنَائِمَ فَقَسَّمَهَا وَلَمْ يُقَسِّمْ لِلطَّلَائِعِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

السَّادِسُ:

قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ تَرَكَ الرُّمَاةُ الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ وَقَالُوا:

نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَأَنْ لَا يُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا لَمْ يُقَسِّمْهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ظَنَنْتُمْ أَنَّا نَغُلُّ فَلَا نَقْسِمُ لَكُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكْتُمَ الرَّسُولُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ عَنْ أَصْحَابِهِ لِنَفْسِهِ، وَعَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ نَهْيَهُ عَنِ الْغُلُولِ، بِأَنْ يُعْطَى لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.

وَأَمَّا مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ: فَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَعَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ فِي يَدِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، غَلَّ رَجُلٌ بِمِخْيَطٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظَّمَ أَمْرَ الْغُلُولِ وَجَعَلَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ،

عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَارَقَ رُوحُهُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ الْكِبَرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ»

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ كِسَاءً وَعَبَاءَةً قَدْ غَلَّهُمَا،

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَرَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ»

وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سَلْمَانَ عَلَى الْغَنِيمَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ وَقَالَ يَا سَلْمَانُ/ كَانَ فِي ثَوْبِي خَرْقٌ فَأَخَذْتُ خَيْطًا مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ فَخِطْتُهُ بِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ جَنَاحٌ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ فَسَلَّ الرَّجُلُ الْخَيْطَ مِنْ ثَوْبِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْمَتَاعِ،

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ أَصَبْتُ هَذَا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» وَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي خَيْبَرَ، فَقَالَ الْقَوْمُ لَمَّا مَاتَ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا»

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا النَّهْيِ حَالَتَانِ.

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَخْذُ الطَّعَامِ وَأَخْذُ عَلْفِ الدَّابَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْمَدَائِنِ أَرْغِفَةً وَجُبْنًا وَسِكِّينًا، فَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنَ الْجُبْنِ وَيَقُولُ: كُلُوا عَلَى اسْمِ الله.