للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْوَاحِدِيُّ فِيهِ فَقَالَ: الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَصَابَهُمْ وَلَا تَقَعُ التَّسْلِيَةُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاقِعًا بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فَاطِرٍ: ١١] .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِذْنِ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٢] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ/ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْمُحَارَبَةِ، ثُمَّ صَارَتْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ الِانْهِزَامِ، صَحَّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِذْنِ قَضَاءُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَحُكْمُهُ بِهِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَصَابَهُمْ، وَالتَّسْلِيَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا قِيلَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَحِينَئِذٍ يَرْضَوْنَ بِمَا قَضَى اللَّهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَالْمَعْنَى لِيُمَيِّزَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ: نَافَقَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُنَافِقٌ إِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ وَأَضْمَرَ خِلَافَهَا، وَالنِّفَاقُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُحْرَ الْيَرْبُوعِ لَهُ بَابَانِ: الْقَاصِعَاءُ وَالنَّافِقَاءُ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ إِنَّهُ مُنَافِقٌ، لِأَنَّهُ وَضَعَ لِنَفْسِهِ طَرِيقَيْنِ، إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ وَإِضْمَارَ الْكُفْرِ، فَمِنْ أَيِّهِمَا طَلَبْتَهُ خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ: الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُنَافِقُ مِنَ النَّفَقِ وَهُوَ السِّرْبُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَسَتَّرُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّافِقَاءِ، لَكِنْ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّافِقَاءَ جُحْرٌ يَحْفِرُهُ الْيَرْبُوعُ فِي داخل الأرض، ثم إنه يرقق بما فَوْقَ الْجُحْرِ، حَتَّى إِذَا رَابَهُ رَيْبٌ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ، فَإِذَا فَتَّشَتْهُ رَمَى عَنْهُ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ أَذِنَ فِي تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَجَدُّدِ عِلْمِ اللَّهِ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فالمراد هاهنا مِنَ الْعِلْمِ الْمَعْلُومُ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَلِيَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ حَصَلَ الْإِذْنُ فِي تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلِيَعْلَمَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَلَمْ يَقُلْ: وَلِيَعْلَمَ الْمُنَافِقِينَ.

قُلْنَا: الِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ مُتَثَبِّتِينَ فِيهِ، وَأَمَّا نافَقُوا فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ إِنَّمَا شَرَعُوا فِي الْأَعْمَالِ اللَّائِقَةِ بِالنِّفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ مَنْ هُوَ؟ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْقِتَالِ. الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الله بن أبي بن سَلُولٍ لَمَّا خَرَجَ بِعَسْكَرِهِ إِلَى أُحُدٍ قَالُوا: لِمَ نُلْقِي أَنْفُسَنَا فِي الْقَتْلِ، فَرَجَعُوا وَكَانُوا ثَلَاثُمِائَةً مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عبد الله