للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذَلِكَ لِجَحْدِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمِيعَادَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ وَيُرْزَقُونَ وَيُوصَلُ إليهم أنواع الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَالْبِشَارَةُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ أَحْياءٌ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً بَعْدَ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ أَرْجَحُ مِنْ جَانِبِ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَهْلِ الْعَذَابِ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ التَّعْذِيبِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [٢٥:

نُوحٍ] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالتَّعْذِيبُ مَشْرُوطٌ بِالْحَيَاةِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غَافِرٍ: ٤٦] وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ أَهْلَ الْعَذَابِ أَحْيَاءً قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ التَّعْذِيبِ، فَلِأَنْ يَجْعَلَ أَهْلَ الثَّوَابِ أَحْيَاءً قَبْلَ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ وَالْإِثَابَةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُهُمْ أَحْيَاءً عِنْدَ الْبَعْثِ فِي الْجَنَّةِ لَمَا قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلا تَحْسَبَنَّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ثَوَابِ الْقَبْرِ حَسُنَ قَوْلُهُ:

وَلا تَحْسَبَنَّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَلَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُشَرِّفُ الْمُطِيعِينَ وَالْمُخْلِصِينَ بِهَذَا التَّشْرِيفِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْيِيهِمْ قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ عِنْدَ الْبَعْثِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَجَازَ أَنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ أَحْيَاءً وَيَصِلُونَ إِلَى الثَّوَابِ وَالسُّرُورِ.

قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فَالَّذِي يُزِيلُ هَذَا الْحُسْبَانَ هُوَ كَوْنُهُمْ أَحْيَاءً فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا حُسْبَانَ هُنَاكَ فِي صَيْرُورَتِهِمْ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِذَلِكَ الْحُسْبَانِ فَزَالَ هَذَا السُّؤَالُ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَالْقَوْمُ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا، فَاسْتِبْشَارُهُمْ بِمَنْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَالِاسْتِبْشَارُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْحَيَاةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَحْثٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صِفَةِ الشُّهَدَاءِ: «إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَإِنَّهَا تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَلَمَّا رَأَوْا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ قَوْمَنَا يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَا كَيْ يَرْغَبُوا فِي الْجِهَادِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ وَمُبَلِّغٌ إِخْوَانَكُمْ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ»

وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: سَأَلْنَا عَنْهَا فَقِيلَ لَنَا إِنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ،

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُبَشِّرُكَ أَنَّ أَبَاكَ حَيْثُ أُصِيبَ بِأُحُدٍ أَحْيَاهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: مَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ أَفْعَلَ بِكَ فَقَالَ يَا رَبِّ أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فأقتل فيها مَرَّةً أُخْرَى»

وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَأَنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا؟ طَعَنَ الْكَعْبِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَتَنَعَّمُ، وَإِنَّمَا يَتَنَعَّمُ الْجِسْمُ إِذَا كَانَ فِيهِ رَوْحٌ لَا الرُّوحُ، وَمَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْبَدَنِ مَنْزِلَةُ الْقُوَّةِ، وَأَيْضًا: الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ