للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَ مُنَافِقًا ظَهَرَ نِفَاقُهُ وَكُفْرُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْلَالِ الْكَافِرِينَ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ عَظُمَتْ دَوْلَتُهُ وَذَلَّ الْكُفْرُ وَأَهْلُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ حَصَلَ هَذَا الِامْتِيَازُ وَثَالِثُهَا: الْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، مِثْلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَقُوَّتِهِ، وَالْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَغْتَمُّونَ بسبب ذلك.

المسألة الثالثة: هاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ إِنْ ظَهَرَ وَانْكَشَفَ فَقَدْ ظَهَرَ كُفْرُ الْمُنَافِقِينَ، وَظُهُورُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ يَنْفِي كَوْنَهُمْ مُنَافِقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَمْ يَحْصُلْ مَوْعُودُ اللَّهِ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ ظَهَرَ بِحَيْثُ يُفِيدُ الِامْتِيَازَ الظَّنِّيَّ، لَا الِامْتِيَازَ الْقَطْعِيَّ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِأَنْ يَظْهَرَ هَذَا التَّمْيِيزُ، ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ التَّمْيِيزُ بِأَنْ يُطْلِعَكُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْبِهِ فَيَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا مُنَافِقٌ وَفُلَانًا مُؤْمِنٌ، وَفُلَانًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفُلَانًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّهِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَوَامُّ النَّاسِ عَلَى غَيْبِهِ، بَلْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الِامْتِيَازِ إِلَّا بِالِامْتِحَانَاتِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ، حَتَّى يَتَمَيَّزَ عِنْدَهَا الْمُوَافِقُ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَأَمَّا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاطِّلَاعِ مِنَ الْغَيْبِ فَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَخَصَّهُمْ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا مُؤْمِنٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ. وَيُحْتَمَلُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَيَمْتَحِنُ خَلْقَهُ بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْفَرِيقَانِ بِالِامْتِحَانِ، وَيُحْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَكُمْ كُلَّكُمْ عَالِمِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ حَيْثُ يُعْلِمُ الرَّسُولَ حَتَّى تَصِيرُوا مُسْتَغْنِينَ عَنِ الرَّسُولِ، بَلِ اللَّهُ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ يُكَلِّفُ الْبَاقِينَ طَاعَةَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ.

ثُمَّ قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُقُوعِ/ الْحَوَادِثِ الْمَكْرُوهَةِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَصَالِحُ مِنْهَا تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، فَلَمَّا أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يَعْنِي لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ فَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَرُسُلِهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولِهِ لِدَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَ إِلَّا الْمُعْجِزُ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَبَ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ قَالَ:

وَرُسُلِهِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ، فَمَنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ الْكُلِّ، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَرَنَ بِهِ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ فَقَالَ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وهو ظاهر.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]]

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ المتقدمة شرع هاهنا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: