للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَنْ يَسْتَقْصِيَ فِي النَّظَرِ إِلَى شَيْئَيْنِ، بَلْ إِذَا حَدَّقَ بَصَرَهُ نَحْوَ شَيْءٍ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَحْدِيقُ الْبَصَرِ نَحْوَ شَيْءٍ آخر، فكذلك هاهنا إِذَا حَدَّقَ الْإِنْسَانُ حَدَقَةَ عَقْلِهِ نَحْوَ مُلَاحَظَةِ معقول امتنع عليه في تلك الحالة الْحَالَةِ تَحْدِيقُ حَدَقَةِ الْعَقْلِ نَحْوَ مَعْقُولٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُ الْعَقْلِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعْقُولَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ أَكْثَرَ، كَانَ حِرْمَانُهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي تِلْكَ التَّعَقُّلَاتِ وَالْإِدْرَاكَاتِ أَكْثَرَ، فَعَلَى هَذَا: السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ تَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ، فَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ صَارَ اشْتِغَالُهُ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ كَالْحِجَابِ لَهُ عَنِ اسْتِغْرَاقِ الْقَلْبِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، فَالسَّالِكُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَانَ طَالِبًا لِتَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ، فَعِنْدَ وُقُوعِ هَذَا النُّورِ فِي الْقَلْبِ يَصِيرُ طَالِبًا لِتَقْلِيلِ الدَّلَائِلِ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ/ الظُّلْمَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَمُلَ فِيهِ تَجَلِّي أَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [طه: ١٢] وَالنَّعْلَانِ هُمَا الْمُقَدِّمَتَانِ اللَّتَانِ بِهِمَا يَتَوَصَّلُ الْعَقْلُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَضَعَ قَدَمَيْكَ فِي وَادِي قُدُسِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَاتْرُكِ الِاشْتِغَالَ بِالدَّلَائِلِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، فَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ أَعَادَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنْهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَارِفَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ عَارِفًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدَّلَائِلِ لِيَكْمُلَ لَهُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ إِعَادَةِ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَحَذْفِ الْبَقِيَّةِ، التَّنْبِيهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ وَحَذَفَ الدَّلَائِلَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ، الَّتِي هِيَ الدَّلَائِلُ الْأَرْضِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ أَقْهَرُ وَأَبْهَرُ، وَالْعَجَائِبُ فِيهَا أَكْثَرُ، وَانْتِقَالُ الْقَلْبِ مِنْهَا إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ أَشَدُّ، ثُمَّ خَتَمَ تِلْكَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبابِ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَهُ ظَاهِرٌ وَلَهُ لُبٌّ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَقْلًا، وَفِي كَمَالِ الْحَالِ يَكُونُ لُبًّا، وَهَذَا أَيْضًا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ العظيم الكريم الحكيم.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩١ الى ١٩٢]

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)

[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ مَا يَتَّصِلُ بِتَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَا يَتَّصِلُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَصْنَافُ الْعُبُودِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى عُبُودِيَّةِ اللِّسَانِ، وَقَوْلُهُ: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى عُبُودِيَّةِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ/ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى عُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ وَالرُّوحِ، وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَجْمُوعَ، فَإِذَا كَانَ اللِّسَانُ مُسْتَغْرِقًا فِي الذِّكْرِ، وَالْأَرْكَانُ فِي الشُّكْرِ، وَالْجِنَانُ فِي الْفِكْرِ، كَانَ هَذَا الْعَبْدُ مُسْتَغْرِقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي جَذْبِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَفِي نَقْلِ الْأَسْرَارِ مِنْ جَانِبِ عَالَمِ الْغُرُورِ إِلَى جَنَابِ الْمَلِكِ الْغَفُورِ، وَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ دَائِمَ الذِّكْرِ لِرَبِّهِ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ذَاكِرِينَ فِيهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى الذِّكْرِ غَيْرَ فَاتِرِينَ عنه ألبتة.