للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الذِّكْرِ الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ، فَإِنْ عَجَزُوا فَفِي حَالِ الْقُعُودِ، فَإِنْ عَجَزُوا فَفِي حَالِ الِاضْطِجَاعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ نَاطِقَةٌ بِفَضِيلَةِ الذِّكْرِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الذِّكْرِ هُوَ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ، وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا صَلَّى الْمَرِيضُ مُضْطَجِعًا وَجَبَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلْ يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا حَتَّى إِذَا وَجَدَ خِفَّةً قَعَدَ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مَنْ ذَكَرَهُ عَلَى حَالِ الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْجَنْبِ، فَكَانَ هَذَا الْوَضْعُ أَوْلَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ دَقِيقَةً طِبِّيَّةً وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْمَبَاحِثِ الطِّبِّيَّةِ أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِكْمَالِ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُضْطَجِعًا عَلَى الْجَنْبِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَقَامُ يُرَادُ فِيهِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَلِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى الْجَنْبِ يَمْنَعُ مِنَ النَّوْمِ الْمُغْرِقِ، فَكَانَ هَذَا الْوَضْعُ أَوْلَى، لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْيَقَظَةِ، وَإِلَى الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَحَلُّ عَلى جُنُوبِهِمْ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قِيَامًا وَقُعُودًا وَمُضْطَجِعِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالذِّكْرِ وَثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا مَعَ الْفِكْرِ، لَا جَرَمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْفِكْرِ لَمْ يُرَغِّبْ فِي الْفِكْرِ فِي اللَّهِ، بَلْ رغب في الفكر في أحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَعَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْآيَةِ

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ»

وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى نَعْتِ الْمُمَاثَلَةِ، إِنَّمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى نَعْتِ الْمُخَالَفَةِ، فَإِذَنْ نَسْتَدِلُّ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى قِدَمِ خَالِقِهَا، وَبِكَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا وَشَكْلِهَا عَلَى بَرَاءَةِ خَالِقِهَا عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالشَّكْلِ،

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ»

مَعْنَاهُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْحُدُوثِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقِدَمِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْإِمْكَانِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْوُجُوبِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْحَاجَةِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالِاسْتِغْنَاءِ، فَكَانَ التَّفَكُّرُ فِي الْخَلْقِ مُمْكِنًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمَّا التَّفَكُّرُ فِي الْخَالِقِ فَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ الْبَتَّةَ، فَإِذَنْ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بِالسُّلُوبِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلَا مُرَكَّبٍ وَلَا مُؤَلَّفٍ، وَلَا فِي الْجِهَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ السُّلُوبِ، وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا فَيَصِيرُ الْعَقْلُ كَالْوَالِهِ الْمَدْهُوشِ الْمُتَحَيِّرِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ فَلِهَذَا السَّبَبِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ، وَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْفِكْرَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ، بَلْ أَمَرَ بِالْفِكْرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ إِنَّمَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِآثَارِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ أَفْعَالُهُ أَشْرَفَ وَأَعْلَى كَانَ وُقُوفُ الْعَقْلِ عَلَى كَمَالِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ إِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْظُمُ اعْتِقَادُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ اعْتِقَادًا تَقْلِيدِيًّا إِجْمَالِيًّا، أَمَّا الْمُفَسِّرُ الْمُحَقِّقُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطَّلِعُ فِي كُلِّ آيَةٍ