للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَتُصِيبُ الْأَمْوَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، تَصَرُّفُهُمْ فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَمْنُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِي الْبِلَادِ كَيْفَ شَاءُوا، وَأَنْتُمْ معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَتاعٌ قَلِيلٌ قِيلَ: أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَلِكَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ:

ذَلِكَ الْكَسْبُ وَالرِّبْحُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا مَشُوبٌ/ بِالْآفَاتِ وَالْحَسَرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِالْعَاقِبَةِ يَنْقَطِعُ وَيَنْقَضِي، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا وَقَدْ كَانَ مَعْدُومًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْآنِ، وَسَيَصِيرُ مَعْدُومًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، فَإِذَا قَابَلْتَ زَمَانَ الْوُجُودِ بِمَا مَضَى وَمَا يَأْتِي وَهُوَ الْأَزَلُ وَالْأَبَدُ، كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجُوزَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ قَلِيلٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يَعْنِي أَنَّهُ مَعَ قِلَّتِهِ يُسَبِّبُ الْوُقُوعَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَدَ الْآبَادِ وَالنِّعْمَةُ الْقَلِيلَةُ إِذَا كَانَتْ سَبَبًا لِلْمَضَرَّةِ الْعَظِيمَةِ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ نِعْمَةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ:

١٧٨] وَقَوْلِهِ: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَافِ: ١٨٣] .

ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ الْمِهادُ أَيِ الْفِرَاشُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِئْسَ الْمِهَادُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزُّمَرِ: ١٦] فَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ النِّيرَانِ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ يَأْكُلُونَ النار ويشربون النار.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٨]]

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ بِالنُّزُلِ، وَالنُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ وَقَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّقْوَى الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ، وعن ترك المأمورات. واحتج بعض أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ بِكُلِّيَّتِهَا نُزُلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِتَكُونَ خِلْعَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: ١٠٧] وَقَوْلُهُ:

نُزُلًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٌ لِتَخْصِيصِهَا بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِلُ اللَّامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَصْدَرٍ مُؤَكَّدٍ، لِأَنَّ خُلُودَهُمْ فِيهَا إِنْزَالُهُمْ فِيهَا أَوْ نُزُولُهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَبَيْعًا وَصَدَقَةً ثُمَّ قَالَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكَثِيرِ الدَّائِمِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْفُجَّارُ مِنَ الْقَلِيلِ الزَّائِلِ، وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَالْأَعْمَشُ نُزْلًا بِسُكُونِ الزَّايِ، وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ لَكِنَّ الذين اتقوا بالتشديد.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٠]

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قَبْلُ، بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَانَ دَاخِلًا فِي صِفَةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَقَالَ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِهَا،