للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ إِلْزَامَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهَا:

قَوْلُهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لُقْمَانَ: ١٤] وَكَفَى بِهَذَا دَلَالَةً عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّهِمَا وَوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبِرِّ إِلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَقَالَ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الْعَنْكَبُوتِ: ٨] وَقَالَ فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَانَ: ١٥]

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ باللَّه وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ»

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اليمين اسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ فَقَالَ أَبَوَايَ فَقَالَ:

أَبَوَاكَ أَذِنَا لَكَ فَقَالَ لَا فَقَالَ فَارْجِعْ وَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْوَالِدَيْنِ هُوَ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا، وَأَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْبِرِّ، وَأَنْ لَا يُشْهِرَ عَلَيْهِمَا سِلَاحًا، وَلَا يَقْتُلَهُمَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ تَرَكَ قَتْلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِتَمْكِينِ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ،

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَكَانَ مُشْرِكًا.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِذِي الْقُرْبى وَهُوَ أَمْرٌ بِصِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا ذكر في أول السورة بقوله:

وَالْأَرْحامَ [النساء: ١] .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ لَمَّا كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِكَوْنِهَا أَقْرَبَ الْقَرَابَاتِ وَكَانَتْ مَخْصُوصَةً بِخَوَاصَّ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا، لَا جَرَمَ مَيَّزَهَا اللَّه تَعَالَى فِي الذِّكْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَرَابَةَ الْوِلَادِ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِقَرَابَةِ الرَّحِمِ.

النَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَالْيَتامى وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَتِيمَ مَخْصُوصٌ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْعَجْزِ: أَحَدُهُمَا: الصِّغَرُ، وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمُنْفِقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرْفُقُ بِهِمْ وَيُرَبِّيهِمْ وَيَمْسَحُ رَأْسَهُمْ، وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا لَهُمْ فَلْيُبَالِغْ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ.

النَّوْعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: وَالْمَساكِينِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدِيمَ الْمَالِ إِلَّا أَنَّهُ لِكِبَرِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِضَ حَالَ نَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ، فَيَجْلِبُ بِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، وَأَمَّا الْيَتِيمُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمَ اللَّه الْيَتِيمَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْمِسْكِينِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمِسْكِينِ إِمَّا بِالْإِجْمَالِ إِلَيْهِ، أَوْ بِالرَّدِّ الْجَمِيلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضُّحَى: ٩] .

النَّوْعُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى قِيلَ: هُوَ الَّذِي قَرُبَ جِوَارُهُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ هُوَ الَّذِي بَعُدَ جِوَارُهُ.

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ أَلَا وَإِنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا» وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: أَرْبَعُونَ يُمْنَةً، وَأَرْبَعُونَ يُسْرَةً، وَأَرْبَعُونَ أَمَامًا وَأَرْبَعُونَ خَلْفًا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ فُلَانَةً تَصُومُ النَّهَارَ وَتُصَلِّي الليل وفي لسنانها شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا، أَيْ هِيَ سَلِيطَةٌ، فَقَالَ عليه الصلاة

<<  <  ج: ص:  >  >>