للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا بن مَسْعُودٍ: «اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَيَّ» قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَنْتَ الَّذِي عَلَّمْتَنِيهِ فَقَالَ: «أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ بَكَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ.

وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالْبَلَاغِ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ، فَلِهَذَا قَالَ: جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَحُكِيَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ [الْمَائِدَةِ: ١١٧] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَتَوَقَّعُونَهُ: كَيْفَ بِكَ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا فَعَلَ فُلَانٌ كَذَا، وَإِذَا جَاءَ وَقْتُ كَذَا، فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: كَيْفَ تَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا اسْتَشْهَدَ اللَّه عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهَا، وَاسْتَشْهَدَكَ عَلَى هَؤُلَاءِ، يَعْنِي قَوْمَهُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ الَّذِينَ شَاهَدَهُمْ وَعَرَفَ أَحْوَالَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ يَشْهَدُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَاهَدُوا أَحْوَالَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ يَقْتَضِي كَوْنَ عِصْيَانِ الرَّسُولِ مُغَايِرًا لِلْكُفْرِ. لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ عِصْيَانِ الرَّسُولِ عَلَى الْمَعَاصِي الْمُغَايِرَةِ لِلْكُفْرِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ كَمَا يُعَاقَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَاقَبُونَ أَيْضًا عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ أَثَرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كَانَ فِي ذِكْرِ مَعْصِيَتِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَثَرٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو تُسَوَّى مَضْمُومَةَ التَّاءِ خَفِيفَةَ السِّينِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ تُسَوَّى مَفْتُوحَةَ التَّاءِ مُشَدَّدَةَ السِّينِ بِمَعْنَى: تَتَسَوَّى، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَلَا يُكْرَهُ اجْتِمَاعُ التَّشْدِيدَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ لَهَا نَظَائِرَ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: اطَّيَّرْنا بِكَ [النَّمْلِ: ٤٧] وَازَّيَّنَتْ [يُونُسَ: ٢٤] يَذَّكَّرُونَ [الأنعام: ٢٦] وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ اتِّسَاعٌ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْأَرْضِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُسَوَّى مَفْتُوحَةَ التَّاءِ وَالسِّينُ خَفِيفَةٌ، حَذَفَا التَّاءَ الَّتِي أَدْغَمَهَا نَافِعٌ، لِأَنَّهَا كَمَا اعْتَلَّتْ بِالْإِدْغَامِ اعْتَلَّتْ بِالْحَذْفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: لَوْ يُدْفَنُونَ فَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ كَمَا تُسَوَّى بِالْمَوْتَى. وَالثَّانِي: يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا وَأَنَّهُمْ كَانُوا وَالْأَرْضُ سَوَاءٌ. الثَّالِثُ: تَصِيرُ الْبَهَائِمُ تُرَابًا فَيَوَدُّونَ حَالَهَا كقوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً

[النَّبَأِ: ٤٠] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ مُتَّصِلًا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا:

يَوَدُّونَ لَوْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ وَلَمْ يَكُونُوا كَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَفَرُوا بِهِ وَلَا نَافَقُوا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>