للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النِّسَاءِ: ٤٤] بَقِيَ ذَلِكَ مُجْمَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ؟ فَأُجِيبَ وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، ثُمَّ قِيلَ: وَكَيْفَ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ؟ فَأُجِيبَ وَقِيلَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع المؤنث، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهَا.

وَالْجَوَابُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا جَمْعٌ حُرُوفُهُ أَقَلُّ مِنْ حُرُوفِ وَاحِدِهِ، وَكُلُّ جَمْعٍ يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الْجَمْعِ مُؤَنَّثًا لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ، فَكَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ فِيهِ جَائِزًا وَقُرِئَ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيفِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَدِّلُونَ اللَّفْظَ بِلَفْظٍ آخَرَ مِثْلَ تَحْرِيفِهِمُ اسْمَ «رَبْعَةٍ» عَنْ مَوْضِعِهِ فِي التَّوْرَاةِ بِوَضْعِهِمْ «آدَمُ طَوِيلٌ» مَكَانَهُ، وَنَحْوَ تَحْرِيفِهِمُ «الرَّجْمَ» بِوَضْعِهِمُ «الْحَدَّ» بَدَلَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٧٩] .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ هَذَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَشْهُورِ/ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؟

قُلْنَا لَعَلَّهُ يُقَالُ: الْقَوْمُ كَانُوا قَلِيلِينَ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْكِتَابِ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَقَدَرُوا عَلَى هَذَا التَّحْرِيفِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيفِ: إِلْقَاءُ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِّ إِلَى مَعْنًى بَاطِلٍ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ اللَّفْظِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذَاهِبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَمْرٍ فَيُخْبِرُهُمْ لِيَأْخُذُوا بِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ حَرَّفُوا كَلَامَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الرابعة: ذكر اللَّه تعالى هاهنا: عَنْ مَواضِعِهِ وَفِي الْمَائِدَةِ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [الْمَائِدَةِ: ٤١] وَالْفَرْقُ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا التَّحْرِيفَ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ لِتِلْكَ النُّصُوصِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ تِلْكَ اللَّفْظَةَ مِنَ الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَ اللَّفْظَ أَيْضًا مِنَ الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهِ عَنِ الْكِتَابِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ: مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:

أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ قَالُوا فِي الظَّاهِرِ: سَمِعْنَا، وَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: وَعَصَيْنَا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، إِظْهَارًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَاسْتِحْقَارًا لِلْأَمْرِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ ضَلَالَتِهِمْ قَوْلُهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ذُو وَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِهَانَةَ وَالشَّتْمَ. أَمَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلشَّتْمِ وَالذَّمِّ فَذَاكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>