للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَعْفُو عَنْهَا، فَلَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُسَمَّى مُشْرِكًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلشِّرْكِ/ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَغْفُورَةً بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالْإِجْمَاعِ هِيَ غَيْرُ مَغْفُورَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ. الثَّانِي: أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَهْدِيدَ الْيَهُودِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْحَجِّ: ١٧] عَطَفَ الْمُشْرِكَ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.

قُلْنَا: الْمُغَايَرَةُ حَاصِلَةٌ بِسَبَبِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَالِاتِّحَادُ حَاصِلٌ بِسَبَبِ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ. إِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَنَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الْمُسْلِمُ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ لِمَا ذكرناه، والمشرك مباح الدم لقوله تعالى:

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَ الذِّمِّيُّ مُبَاحَ الدَّمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَمُبَاحُ الدَّمِ هُوَ الَّذِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَذَا الدَّلِيلِ فِي حَقِّ النَّهْيِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْ قَاتِلِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ لَنَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مَعْنَاهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ لِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَغْفِرُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وذلك عند ما يَتُوبُ الْمُشْرِكُ عَنْ شِرْكِهِ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ هُوَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ هُوَ أَنْ يَغْفِرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَارِدَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فُلَانٌ لَا يُعْطِي أَحَدًا تَفَضُّلًا، وَيُعْطِيَ زَائِدًا فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُعْطِيهِ تَفَضُّلًا، حَتَّى لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: لَا يُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَيُعْطِي أَزْيَدَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَحْكُمُ بِرَكَاكَةِ هَذَا الْكَلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غُفْرَانَ الصَّغِيرَةِ وَغُفْرَانَ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غُفْرَانِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الشِّرْكُ وَمَا سِوَى الشِّرْكِ، ثُمَّ إِنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَبِيرَةُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْكَبِيرَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالصَّغِيرَةُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الشِّرْكِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْفُورٍ قَطْعًا، وَعَلَى مَا سِوَاهُ بِأَنَّهُ مَغْفُورٌ قَطْعًا، لَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ يَشَاءُ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ، لَكِنْ فِي حَقِّ/ مَنْ شَاءَ. وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكَبِيرَةُ قَبْلَ التَّوْبَةِ أَيْضًا مَغْفُورَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِمَنْ يَشاءُ فَعَلَّقَ هَذَا الْغُفْرَانَ بِالْمَشِيئَةِ، وَغُفْرَانُ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَغُفْرَانُ الصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَغَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>