للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ لَبَخِلُوا بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ. الثَّالِثُ: أن «أم» هاهنا مُنْقَطِعَةٌ وَغَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِمَا قَبْلَهَا الْبَتَّةَ، كَأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ قَالَ: بَلْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمُلْكِ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ الْوُجُوهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي هَذَا الْمُلْكِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَوْلَى بِالْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ فَكَيْفَ نَتَّبِعُ الْعَرَبَ؟ فَأَبْطَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُلْكَ يَعُودُ إِلَيْهِمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْيَهُودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِمْ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّه في هذه الآية.

الثالث: المراد بالملك هاهنا التَّمْلِيكُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ نُبُوَّتِكَ لَوْ كَانَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهِمْ لَبَخِلُوا بِالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: كَانُوا أَصْحَابَ بَسَاتِينَ وَأَمْوَالٍ، وَكَانُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ ثُمَّ كَانُوا يَبْخَلُونَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بُخْلَهُمْ كَالْمَانِعِ مِنْ حُصُولِ الْمُلْكِ لَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالْبُخْلَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ أَنَّ الِانْقِيَادَ لِلْغَيْرِ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لِذَاتِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَحَمَّلُ الْمَكْرُوهَ إِلَّا إِذَا وَجَدَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَمْرًا مَطْلُوبًا مَرْغُوبًا فِيهِ، وَجِهَاتُ الْحَاجَاتِ/ مُحِيطَةٌ بِالنَّاسِ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْ إِنْسَانٍ إِحْسَانٌ إِلَى غَيْرِهِ صَارَتْ رَغْبَةُ الْمُحْسِنِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُنْقَادًا مُطِيعًا لَهُ، فَلِهَذَا قِيلَ: بِالْبِرِّ يُسْتَعْبَدُ الْحُرُّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا بَقِيَتِ النَّفْرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ خَالِصًا عَنِ الْمُعَارِضِ، فَلَا يَحْصُلُ الِانْقِيَادُ الْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُلْكَ وَالْبُخْلَ لَا يَجْتَمِعَانِ ثُمَّ إِنَّ الْمُلْكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُلْكٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ مُلْكُ الْمُلُوكِ، وَمُلْكٌ عَلَى الْبَوَاطِنِ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ مُلْكُ الْعُلَمَاءِ، وَمُلْكٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ مَعًا، وَهَذَا هُوَ مُلْكُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ. فَإِذَا كَانَ الْجُودُ مِنْ لَوَازِمِ الْمُلْكِ وَجَبَ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونُوا فِي غَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، لِيَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ سَبَبًا لِانْقِيَادِ الْخَلْقِ لَهُمْ، وَامْتِثَالِهِمْ لِأَوَامِرِهِمْ. وَكَمَالُ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَاصِلٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: «إِذَنْ» فِي عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ أَظُنُّ فِي عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الظَّنَّ إِذَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ نُصِبَ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِكَ أَظُنُّ زَيْدًا قَائِمًا، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْوَسَطِ جَازَ إِلْغَاؤُهُ وَإِعْمَالُهُ، كَقَوْلِهِ:

زَيْدٌ أَظُنُّ قَائِمٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ زَيْدًا أَظُنُّ قَائِمًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَالْأَحْسَنُ إِلْغَاؤُهُ، تَقُولُ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ ظَنَنْتُ، وَالسَّبَبُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ «ظَنَّ» وما أشبه مِنَ الْأَفْعَالِ نَحْوَ عَلِمَ وَحَسِبَ ضَعِيفَةٌ فِي الْعَمَلِ، لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مَعْمُولَاتِهَا، فَإِذَا تَقَدَّمَ دَلَّ التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ فَقَوِيَ عَلَى التَّأْثِيرِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْعِنَايَةِ فَلَغَا، وَإِنْ تَوَسَّطَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَلَا فِي مَحَلِّ الْإِهْمَالِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، بَلْ كَانَتْ كَالْمُتَوَسِّطَةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِعْمَالُ وَالْإِلْغَاءُ جَائِزًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْمَالَ فِي حَالِ التَّوَسُّطِ أَحْسَنُ، وَالْإِلْغَاءَ حَالَ التَّأَخُّرِ أَحْسَنُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَلِمَةُ «إِذَنْ» عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ نَصَبَتِ الْفِعْلَ، تَقُولُ إِذَنْ أُكْرِمَكَ، وَإِنْ تَوَسَّطَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ جَازَ الْإِلْغَاءُ، تَقُولُ أَنَا إِذَنْ أُكْرِمُكَ، وَأَنَا أُكْرِمُكَ إِذَنْ فَتُلْغِيهِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً كَلِمَةُ «إِذَنْ» فِيهَا مُتَقَدِّمَةٌ وَمَا عَمِلَتْ،

<<  <  ج: ص:  >  >>