للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ

يَعْنِي الرَّسُولَ: مَوَدَّةٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِبْطَاءِ وَالتَّثَاقُلِ صَحَّ فِي الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الْجِهَادِ وَيَتَثَاقَلُونَ وَلَا يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَثْبِيطِ الْغَيْرِ صَحَّ أَيْضًا فِيهِمْ، فَقَدْ كَانُوا يُثَبِّطُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُورِدُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ التَّلْبِيسِ، فَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلَى تَثْبِيطِ الْغَيْرِ، فَكَأَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ أَبْطَأَ وَبَطَّأَ، فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ لَازِمًا، وَالثَّانِي مُتَعَدِّيًا، كَمَا يُقَالُ فِي أَحَبَّ وَحَبَّ، فان الأول لا زم وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ مَوْصُولَةٌ بِالْحَالِ لِلْقَسَمِ كَأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَلَامًا لَكَ لَقُلْتَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ حَلَفَ باللَّه لَيُبَطِّئَنَّ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يَعْنِي مِنَ الْقَتْلِ وَالِانْهِزَامِ وَجَهْدٍ مِنَ الْعَيْشِ. يَعْنِي لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا حَاضِرًا حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مِنْ ظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ لَيَقُولَنَّ:

كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقٍ يَعْنِي الْمَوَدَّةَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ. قَالَ: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُسَ: ٥٧] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٥] فَالتَّأْنِيثُ هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّذْكِيرُ يَحْسُنُ إِذَا كَانَ التَّأْنِيثُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ فَاصْلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ لَيَقُولَنَّ بِضَمِّ اللَّامِ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى مَعْنَى «مَنْ» لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ «مَنْ» وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ فِي الْمَعْنَى لَكِنَّهُ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ، وَجَانِبُ الْإِفْرَادِ قَدْ تَرَجَّحَ فِي قَوْلِهِ: قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ [النساء: ٧٢] وفي قوله: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ التَّنْزِيلُ هَكَذَا: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّه لَيَقُولَنَّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا كَانَ النَّظْمُ مُسْتَقِيمًا حَسَنًا، فَكَيْفَ وَقَعَ قوله: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ فِي الْبَيْنِ؟

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، بَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُنَافِقِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ نَكْبَةٌ أَظْهَرَ السُّرُورَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ مُتَخَلِّفًا عَنْهُمْ، وَلَوْ فَازُوا بِغَنِيمَةٍ/ وَدَوْلَةٍ أَظْهَرَ الْغَمَّ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ فَوَاتِ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبِّ إِنْسَانًا فَرِحَ عِنْدَ فَرَحِهِ وَحَزِنَ عِنْدَ حُزْنِهِ، فَأَمَّا إِذَا قُلِبَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ فَذَاكَ إِظْهَارٌ لِلْعَدَاوَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الْمُنَافِقِ سُرُورَهُ وَقْتَ نَكْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَ حُزْنَهُ عِنْدَ دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ أَنَّهُ فَاتَهُ الْغَنِيمَةُ، فَقَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْكَلَامَ بِتَمَامِهِ أَلْقَى فِي الْبَيْنِ قَوْلَهُ:

كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وَالْمُرَادُ التَّعَجُّبُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى مَا يَقُولُ هَذَا الْمُنَافِقُ كَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وَلَا مُخَالَطَةٌ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا وَاقِعًا فِي الْبَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ إِلَّا أَنَّهُ في غاية الحسن.

<<  <  ج: ص:  >  >>