للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِقَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّه، وَالْخُصُومُ لَا يَقُولُونَ بِهِ، فَصَارُوا مَحْجُوجِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْكُفْرَ أَيْضًا مِنَ اللَّه.

قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مِنَ اللَّه قَالَ: الْكُفْرُ مِنَ اللَّه، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنَ اللَّه دُونَ الْآخَرِ مخالف لا جماع الْأُمَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَدَرَ عَلَى تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لا يجاد الكفر إما أن تكون صالحة لا يجاد الْإِيمَانِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لا يجاد الْإِيمَانِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْقَوْلُ فِي أَنَّ إِيمَانَ العبد منه، وإن لم تكن صالحة لا يجاد الْإِيمَانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى ضِدِّهِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْقُدْرَةُ مُوجِبَةً لِلْمَقْدُورِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكُفْرُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِلْإِيمَانِ فَبِأَنْ لَا يَكُونَ مُوجِدًا لِلْكُفْرِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِإِيجَادِ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ مُرَادِهِ، وَلَا نَرَى فِي الدُّنْيَا عَاقِلًا إِلَّا وَيُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِهِ هُوَ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ وَالْحَقَّ، وَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِهِ هُوَ/ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ وَالِاعْتِقَادَ الْخَطَأَ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ الْحَقِّ الْمُطَابِقِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ إِلَّا الْحَقُّ، فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ وَمَطْلُوبُهُ وَمُرَادُهُ لَمْ يُقْطَعْ بِإِيجَادِهِ، فَبِأَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ الَّذِي مَا أَرَادَهُ وَمَا قَصَدَ تَحْصِيلَهُ وَكَانَ فِي غَايَةِ النُّفْرَةِ عَنْهُ وَالْفِرَارِ مِنْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ وَاقِعٌ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ أَشَدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي وُقُوعِ الْكُفْرِ بِقُدْرَتِهِ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ مِنَ اللَّه تَرَكَ ذِكْرَ الْكُفْرِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامِنَا.

أَمَّا مَا احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.

فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٨٠] أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إِلَى اللَّه، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْمَرَضِ وَالشِّفَاءِ، بَلْ إِنَّمَا فَصَلَ بينهما رعاية الأدب، فكذا هاهنا، فانه يقال: يا مدبر السموات والأرض، ولا يقال يا مدبر القمل والصئبان والخنافس، فكذا هاهنا. الثَّانِي: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: هَذَا رَبِّي أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَهَذَا رَبِّي، فكذا هاهنا، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْإِيمَانُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى وَفْقِ قَصْدِهِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا مِنْهُ، بَلْ مِنَ اللَّه، فَهَذَا الْكُفْرُ مَا قَصَدَهُ وَمَا أَرَادَهُ وَمَا رَضِيَ بِهِ الْبَتَّةَ، أَفَيَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ بِهِ؟ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدْخُلُ فِيهَا الْإِيمَانُ، وَالسَّيِّئَةَ يَدْخُلُ فِيهَا الْكُفْرُ، أَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (فَمِنْ تَعْسِكَ) فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَا طَعْنَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ هَذَا الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ السَّيِّئَةَ إِلَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ قَوْلَهُ: (فَمِنْ تَعْسِكَ) لَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِنَا: إِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَمِمَّا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِسْنَادُ جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا يَعْنِي لَيْسَ لَكَ إِلَّا الرِّسَالَةُ وَالتَّبْلِيغُ، وَقَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ وَمَا قَصَّرْتَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء: ١٦٦]

<<  <  ج: ص:  >  >>