للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَيْسَ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ/ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه لَوَقَعَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ الطَّوِيلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٣] كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: ١٠٣] وَآيَاتُ الْجَبْرِ كَالْمُنَاقِضَةِ لِآيَاتِ الْقَدَرِ، وَقَوْلُهُ: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] كالمناقض لقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: ٣٩] .

قُلْنَا: قَدْ شَرَحْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ وَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا الْبَتَّةَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِنَا: الْقُرْآنُ سَلِيمٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاخْتِلَافُ فِي رُتْبَةِ الْفَصَاحَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي جُمْلَتِهِ مَا يُعَدُّ فِي الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، بَلْ بَقِيَتِ الْفَصَاحَةُ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ، فَإِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الْكَبِيرَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ فِي كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا مَتِينًا وَبَعْضُهُ سَخِيفًا نَازِلًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ المعجز مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَضَرَبَ الْقَاضِي لِهَذَا مَثَلًا فَقَالَ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُبَ الطَّوَامِيرَ الطَّوِيلَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ في شيء من تلك الحروف خل وَنُقْصَانٌ، حَتَّى لَوْ رَأَيْنَا الطَّوَامِيرَ الطَّوِيلَةَ مَصُونَةً عَنْ مِثْلِ هَذَا الْخَلَلِ وَالنُّقْصَانِ لَكَانَ ذَلِكَ معدودا في الاعجاز فكذا هاهنا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومُ الْمَعْنَى خِلَافَ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا النَّبِيُّ وَالْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَهَيَّأَ لِلْمُنَافِقِينَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالتَّدَبُّرِ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ حُجَّةً فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَ عَجْزَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى كُفَّارِ الزَّنْجِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، فَبِأَنْ يُحْتَاجَ فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ كَانَ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ للَّه تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَالِاخْتِلَافُ وَالتَّفَاوُتُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، وَفِعْلُ اللَّه لَا يُوجَدُ فِيهِ التَّفَاوُتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: ٣] فَهَذَا/ يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ فِعْلًا للَّه.

وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ مَعْنَاهُ نَفِيُ التَّفَاوُتِ فِي أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَقَعُ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>