للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ قَرَأَ يُصْلِحا فَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِصْلَاحَ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ مُسْتَعْمَلٌ قَالَ تَعَالَى:

فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٢] وَقَالَ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النِّسَاءِ: ١١٤] وَمَنْ قَرَأَ يَصَّالَحَا وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ قَالَ: أَنْ يَصَّالَحَا مَعْنَاهُ يَتَوَافَقَا، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ صَالَحَا، وَانْتَصَبَ صُلْحًا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَصَالَحَا، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: ١٧] وَقَوْلِهِ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ٨] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصُّلْحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي شَيْءٍ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ إِمَّا الْمَهْرُ أَوِ النَّفَقَةُ أَوِ الْقَسْمُ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى طَلَبِهَا مِنَ الزَّوْجِ شَاءَ أَمْ أَبَى، أَمَّا الْوَطْءُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَطْءِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الصُّلْحُ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا بَذَلَتِ الْمَرْأَةُ كُلَّ الصَّدَاقِ أَوْ بَعْضَهُ لِلزَّوْجِ أَوْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَةَ النَّفَقَةِ، أَوْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ الْقَسْمَ، وَكَانَ غَرَضُهَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا، فَإِذَا وَقَعَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصُّلْحُ مُفْرَدٌ دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ، وَالْمُفْرَدُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ، وَذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِيهِ.

وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَهَهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ فَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى أَمْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ؟ الْأَصَحُّ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ ضَرُورَةَ أَنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَصَارَ مُجْمَلًا وَيَخْرُجُ عَنِ الْإِفَادَةِ، فَإِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ انْدَفَعَ هَذَا الْمَحْذُورُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، يَعْنِي الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْأَوَّلُونَ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ جَائِزٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا أَنَّ حَمْلَ هَذَا/ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْلَى، فَانْدَفَعَ اسْتِدْلَالُهُمْ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إِلَّا أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْمَطْلُوبِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا فَقَوْلُهُ فَلا جُناحَ يُوهِمُ أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَالْغَايَةُ فِيهِ ارْتِفَاعُ الْإِثْمِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ كَمَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ فَكَذَلِكَ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْفَعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُمَا إِذَا تَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يُقِيمَا عَلَى النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>