للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتَثْنَى الْمُذَكَّاةَ ثُمَّ فَسَّرَ الذَّكَاةَ بِمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالصَّدْرِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْخَيْلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُذَكَّاةً، فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لِعُمُومِ قوله إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ. [المائدة: ٣] وَأَمَّا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ فَالذَّكَاةُ أَيْضًا حَاصِلَةٌ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا فَهِيَ مُذَكَّاةٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى بِاللِّسَانِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الذَّكَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالذَّكَاةِ بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِالتَّسْمِيَةِ مُمْكِنًا، فَنَحْنُ مِثْلُكُمْ فِيمَا إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ، وَإِذَا حَصَلَتِ الذَّكَاةُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مُبَاحٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَعِنْدَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَقَدِ احْتَجَّا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّا نَعْتَمِدُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى مَا

رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهَا إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ، فحذف الصيد وهو المراد فِي الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهُوَ/ قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَخَبَرُهُ هُوَ قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِحُّ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَإِضْمَارٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْجَوَارِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْكَوَاسِبُ مِنَ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَاحِدُهَا جَارِحَةٌ، سُمِّيَتْ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا كَوَاسِبُ مِنْ جَرَحَ وَاجْتَرَحَ إِذَا اكْتَسَبَ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

[الجاثية: ٢١] أي اكتسبوا، وقال وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠] أي ما كسبتم. والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وَقَالُوا: إِنَّ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّيْدِ فَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ دَمٌ لَمْ يَحِلَّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، أَنَّ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْكِلَابِ فَلَمْ يُدْرَكْ ذَكَاتُهُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ قالوا: لأن التخصيص يذل عَلَى كَوْنِ هَذَا الْحُكْمِ مَخْصُوصًا بِهِ، وَزَعَمَ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ، كَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ مِنَ الطَّيْرِ:

مِثْلَ الشَّاهِينِ وَالْبَاشِقِ وَالْعُقَابِ، قَالَ اللَّيْثُ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنِ الصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالْفَهْدِ وَمَا يَصْطَادُ بِهِ مِنَ السِّبَاعِ، فَقَالَ: هَذِهِ كُلُّهَا جَوَارِحُ. وَأَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلِّبَ هُوَ مُؤَدِّبُ الْجَوَارِحِ وَمُعَلِّمُهَا أَنْ تَصْطَادَ لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْكَلْبِ لِأَنَّ التَّأْدِيبَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكِلَابِ، فَاشْتُقَّ مِنْهُ هَذَا اللَّفْظُ لِكَثْرَتِهِ فِي جِنْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ سَبْعٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى كَلْبًا، وَمِنْهُ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ» .

الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَبِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الضَّرَاوَةِ، يُقَالُ فُلَانٌ: كَلِبٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ بِالْكَلْبِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي حِلَّ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالرَّمْيِ وَوَضْعِ الشَّبَكَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالْجَوَارِحِ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا كَانَتِ الْجَوَارِحُ مُعَلَّمَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ

وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّه فَكُلْ» ،

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَالْكَلْبُ لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إِلَّا عِنْدَ أُمُورٍ، وَهِيَ إِذَا أُرْسِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>